ما ضاقت بلاد بأحرارها ومفكريها وعلمائها، كما هو عليه الحال اليوم في الدول العربية، فأينما نظرنا واتجهنا فيها، لا نرى إلاّ قمعاً وسجناً وقطعاً للأرزاق، دماءٌ تسيل في ربى الشام وملايين من المواطنين المسالمين، يهيمون على وجوههم، فقدوا الأمن والغذاء والعلاج، وكذا هي اليمن وليبيا ومصر الكنانة وغالبية الأقطار العربية، حيث أصبحت الشعوب آلة في خدمة الأنظمة والممالك والجمهوريات.
بدأت الحكاية عندما غيّر الاستعمار ثوبه من عسكر وجيوش وحكم بالحديد والنار، تاركاً البلدان العربية التي استعمرها عقودا بيد أنظمة تابعة أسيرة لنفوذه، بعد أن أفرغها من كثير مما يصلح حالها، إذ أفسد شيئاً من نخبها الثورية التي تسلمت الحكم من بعده بحجة التحرير والتخلص من نيره، فارضة الأحكام العرفية سنوات طويلة، حتى لا تتيح لغيرها الشراكة في إدارة البلاد، تارة تحكم باسم الثورية، وأخرى باسم الاشتراكية والوطنية، أوغير ذلك من المسميّات التي لم تغن البلاد ولم تسمنها من جوع.
فقدت غالبية النخب الحاكمة الثقافة الكافية لإدارة الأوطان، والتي تعتمد في أساسها على الشراكة والعدل وتوزيع الثروات، واستبدلت ذلك بالسوط والقيد وقضبان السجون، كمّمت أفواه أحرارها وغيّبت من كان لهم تأثيرٌ على الجماهير، أفرغت البنوك من أموالها وورّثت الأبناء والأحفاد من عائلات النخب الحاكمة، ومن دار في فلكها، قوت شعوبها ومصادر رزق البلاد من شركات سيادية كالطيران والموانئ وسكك الحديد وآبارالبترول وشركاته، ودعمت بأموال بلدانها اقتصادات الدول الحامية لعروشها.
لم يجد كثيرون من أبناء الأمة العربية حظّاً لهم في حظيرة هؤلاء الحكام ومتنفساً في ربوعها المسلوبة، وليبحثوا لهم عن ملجأ عبر الحدود يهيمون من خلاله على بلدان الغرب التي تفتح لهم أذرعها ما داموا يمتلكون الشباب والعلم والإرادة التي ترغب به دول ما وراء البحار، تجنّسهم بجنسياتها وتبني اقتصاداتها بهممهم وتملأ فراغاً تحتاجه، وخير دليل على ذلك شغف وسعي الدولة الأوروبية الأقوى، ألمانيا، لاستيعاب مئات آلاف السوريين والعراقيين وغيرهم، ودمجهم في عجلتها الاقتصادية الناهضة.
لا يجد الإنسان عزّاً وكرامةً كما يجده في وطنه، في وقتٍ ينعم به هذا الوطن بالحرية والرخاء واحترام حقوق الإنسان، وهذه كلها مفقودة في بلاد العُرب التي ضاقت ساحاتها بفتيتها رغم خسارتها لطاقاتهم وقدراتهم ومهاراتهم التي امتلكوها ونعم بها الآخرون.
ما تدفعه هذه الأنظمة من أثمان باهظة على حساب ذلّة شعوبها وكرامتها ورخائها، لهو أضعاف ما قد تدفعه في الحالة الثانية، وهي أن تقوم هذه الأنظمة بإشراك شعوبها في الحكم، وأن تسعى لتوزيع عادل في الثروات، وتقوم بالنهوض في البنى التحتية وتطويرها وإيجاد فرص حقيقية للعمل، كما تبذل جهدها في تطوير التعليم بصورةٍ يسهم فيها في إيجاد جيل واعٍ متطور، وتقوم بتحسين النظام الصحي بجزء يسير من الأموال التي تدفع أتوات حماية لبلطجية الغرب وساسته، عندها ستجد أنّ المواطن البسيط لديه الرغبة في بذل روحه فداء قيادة أمينة صادقة ومخلصة، وفقط عند ذلك ستبقى طاقات الأمة في عرينها تبذل ما أوتيت من عزيمة لتطوير بلدانها والحفاظ على كرامة الأمة وشرفها.
تقف الشعوب العربية اليوم على عتبة خطيرة ومفصل حرج من تاريخها المظلم، فالحالة التي تحياها والمنحدر الذي وصلت إليه، قد لا تكون وصلت إليه قبل ذلك، وقد تصل مستوىً أدنى في الضعف والمهانة منه. وعلى الرغم من التضحيات الجسام التي قدمتها بعض هذه الشعوب في السنوات الأخيرة، إلاّ أنّ الخلاص من الحالة هذه يحتاج كثيراً من الصبر والوعي وكثيراً من الإدراك، والبحث عن طرق جديدة خلّاقة تسهم في تغيير الواقع العربي المظلم، والخروج عن مألوف الثقافة التقليدية للتغيير، فليست المواجهة المباشرة تصلح دائماً وليس النوم وموالاة المستبدين كذلك سبيلُ الخلاص، لا بدّ وأن يكون للنخب والأحزاب دور أساسيّ في البحث عن مخرج يتيح إلى تغيير جوهريّ يعيد العزة والكرامة والثقة والحماية للمواطن العربيّ، والإفادة من كل الطاقات البشرية والتكنولوجية وتوظيفها لتحقيق أهداف وغايات الشعوب الطامحة بالحرية والنهضة والسلام.
جمال حاج علي - فلسطين
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال