لا جدل على أن أخطر الظواهر الكونية اليوم هي الإرهاب، الذي لم يعد حكرا في نشأته على البيئة المتطرفة والمنغلقة، بل بات أكثر انتشارا حتى في عواصم أوروبية متحضرة وديمقراطية، ولها مستويات حياتية جيدة.
تستمر في قاعة الفن الرابع بتونس العاصمة عروض المسرحية الجديدة للمخرج المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي “مارتير”، والتي تأتي عروضها مع عودة المسرح التونسي تدريجيا إلى النشاط، مع تطبيق كافة الإجراءات الصحية الاحترازية.
والمسرحية من تمثيل أوس الزبيدي، نهى النفاتي، مالك شفرود، مي السليم، كلارا الفتوي الهوى، مهدي عياد، سوار عبداوي، أمان الله عتروس، وحمزة الورتاني. وهي مأخوذة عن نص بنفس العنوان للكاتب الألماني ماريوس فون ماينبرغ، قام بترجمته والمساعدة في إخراجه المخرج المتربص حمزة الورتاني.
وبعد مشاهدة العرض والأداء التمثيلي المميز، ربما هنا نفهم ما كتب على جذاذة العرض، “عندما تستقيل العائلة وتنهار المنظومة التربوية ويتيه الدين بين الشعوذة والانتهازية ويتهور المجتمع ويتوحش، ولا يبقى فيه إلا القليل القليل ممن يؤمنون بالعقل الرشيد، يصبح لا حول للشباب الضائع إلا التشبث بقيم ‘الإنقاذ‘ الديني المتشدد وبحد السيف القاطع”.
المسيح القاتل
نبدأ قراءتنا لمسرحية “مارتير” من المشهد الأخير، الذي بلغه العمل بعد انقضاء ساعتين تقريبا، المشهد الأخير شاب يستل مسدسا ويقتل كل من حوله. “فعل إرهابي” سيتبادر إلى كل من ينظر إلى هذا المشهد مجتزَأ، لكن هل هو فعل وليد لحظته؟
المسرحية تجيب قطعا بـ”لا”، حيث تعالج أخطر الظواهر الكونية اليوم من أعماقها القديمة والمتجذرة في النفوس والواقع والمحيط الاجتماعي، وغيرها من جذور لا مرئية، يكفي عدم معالجتها وظروف مناسبة ليندلع من خلالها عنف لا مثيل لوحشيته.
العرض تمكن من رصد مكامن مرض التطرف والشعوذة والدجل وما يقابلها من استهتار وفراغ وفوضى وتسيّب
نعود إلى بداية العمل الصادمة نوعا ما، مجموعة من الشباب وكأنهم في ساحة مدرسة، صراخ ولعب عفوي، ومن ثم يأتي الأستاذ، صافرة ويشرع الجميع في حركات رياضية، ثم يخلعون ملابسهم وتتحول الساحة إلى مسبح، إنها حصة سباحة في مدرسة إذن، لكن اللافت أن شابا نحيلا يتأبط كتابا لا يفارقه، ويضع سماعات، كان منعزلا عن رفاقه في الساحة، ويرفض في حصة السباحة نزع ملابسه. “هذا حرام” كما سيتبين لاحقا.
نحن بصدد مدرسة أو هي أكاديمية طلاب مختلفي الميول والانتماءات، فيهم من يميل إلى المرح والتحرر من كل قيد، وفيهم المصاب بعاهة وهو عرضة للتنمر، وفيهم بطل العرض، المسيحي المتشدد بنجامين، الذي يحاول أن يقوّم سلوك أقرانه، ويرفض محتويات الدروس العلمية التي تتعارض مع الكتاب المقدس، كما يرفض كل سلوك خارج عن الدين، وحتى حصة الرياضة بالنسبة إليه نوع من التفسخ الأخلاقي.
شاب نحيل، الكتاب المقدس لا يفارقه، معطفه الطويل وملامحه حادة وشاحبة، شاب منعزل بلا أصدقاء، لا يعنيه شيء إلا السعي إلى تطبيق الكتاب المقدس بحذافيره، وادعاء أنه المخلّص الجديد والشهيد الذي سينقذ العالم. وحتى الكنيسة هي بالنسبة إليه على ضلالة وفي كفر، حتى أمه مخطئة، هذا ناهيك عن كراهيته لأستاذة العلوم، التي اكتشف أنها يهودية، وحاول أن يصب عليها غضبه لأن اليهود هم من صلبوا المسيح، ولأنها تدرسهم علما، مثل نظرية النشوء والارتقاء أو حصص التربية الجنسية، ينافي ما جاء في تعاليم الكتاب المقدس.
تفشل دعوات الإدارة لأم بنجامين المتكررة، كما تفشل المحاولات لإقناعه بالدراسة والتخلي عن محاولة تطبيق “الشرائع المقدسة”، وإنقاذه من تقمص دور المسيح الجديد، والذي يبلغ ذروته حين يصنع صليبا ليقف عليه، منتحلا دور المسيح، لكن المسيح الجديد يرفض أن يطهّر الآخرين بآلامه، بل يصل إلى حدّ قتلهم، لأنهم مختلفون عنه وضد أفكاره وقناعاته، التي فشل الجميع في تغييرها أو التعامل معها حتى صديقه الوحيد الأعرج، الذي استغل إعاقته ليقنعه بآرائه وبأن الخلاص هو فقط عند الرب لا العلم.
في مشهد مفارق يفضح الشعوذة، يأخذ بنجامين صديقه الأعرج ويشرع في الصلاة لأجل أن تطول ساقه، لكن ذلك لا يحصل، بينما حقيقة العلاقة بين الشابين هي الميول المثلية للثاني الذي وجد في بنجامين الصديق الوحيد الذي لا يتنمّر عليه، والذي أوهمه بأنه الأكثر صدقا وقدرة على مصادقته وبذل المحبة لأجله، فقط إذا قام بتدبير حادث قاتل لأستاذة العلوم اليهودية إريكا روث، وهو ما لا يحدث، وبالتالي تنهار علاقة الصداقة المصطنعة، وهذه دلالة عميقة على أنه لا صداقة مع المتطرفين مهما أبدوا من طيبة مصطنعة فأهدافهم لا إنسانية، فهم في الحقيقة في حاجة إلى علاج جذري.
لم يُعالج بنجامين الذي يعيش مع أمه المطلقة، والتي تعاني بدورها من الوحدة وتمارس علاقات اكتشف إحداها ابنها، ولم تستطع المدرسة تنشئته بشكل سليم، كما لم تتمكن عائلته المنهارة من ذلك، وحتى المجتمع الغارق في الفوضى. هو إذن شاب وحيد منعزل، يشبه قنبلة موقوتة، وخطر على نفسه وعلى الجميع بمن فيهم أقرب الناس إليه وهي أمه.
العلاقات المعقدة
تبدو العلاقات في العرض معقدة ومتداخلة للغاية، ولعل أهم سماتها هي الميول المثلية التي أراد من خلالها الجعايبي طرح قضية أبعد منها. ربما كانت المثلية السمة الأكثر إحداثا للصدمة لأي كان، وخاصة في المجتمعات المحافظة مثل المجتمعات العربية، لكن لنفصلها جانبا، ونتأمل في دواخلنا بتجرد، ألا نحمل ميولا غريبة خارجة عن قانون الجماعة والمجموعات البشرية، أليست ميولا جنسية فانتازمية، ميولا شهوانية وأخرى ربما جمالية أو في تمظهرات ما؟
الميول كثيرة داخل كل منا إلى حد أنها قد تتناقض في ما بينها، وهو ما نجده مجسدا في شخصية المديرة، وهي ذات ميول مثلية، تنكشف في محاولتها استمالة أستاذة العلوم، بينما تمثل في جانب آخر الصرامة والنظام، وفي جانب آخر العقلية الكلاسيكية حيث ترفض مثلا حصة التربية الجنسية التي تقدمها أستاذة العلوم للطلاب، إنها شخصية مركبة بأتم معنى الكلمة، إلى الحدّ الذي باتت معه غير جديرة بقيادة مؤسسة تربوية، وكم من شخص لا جدارة له بقيادة عجلة، يقود بلادا اليوم.
من العلاقات المثيرة أيضا علاقة بنجامين بزميله الأعرج، وهو شخص ضعيف، يخرج من منزلهم بلباس مرتب ويعود إليه متسخا من تنمر زملائه الذين يلقون عليه الفضلات ويمارسون عليه أسوأ أفعال التمييز والسخرية، شخصية مهتزة، لم تجد صديقا حقيقيا واحدا، وهذا ما استغله بنجامين.
مع تطور العلاقة التي كانت تشبه علاقة القائد وتابعه المخلص، المستعد لأي شيء لإرضائه، ولو كان قتل أستاذة العلوم، تنكشف رغبات الأعرج المثلية في محاولته لتقبيل بنجامين على البحر، فيما كان الأخير يحاول إقناعه بأفكاره وبضرورة مقاومة دعاة العلم والتفسّخ والانحلال.
قبول الآخر
الجعايبي خلق مزيجا تغريبيا مثيرا للتساؤل للولوج إلى القضية الأساسية التي يريد معالجتها، التطرف وعدم قبول الآخر
الانتقال من مشهد إلى آخر كان دقيقا، من المسبح إلى قاعة الدرس ومنها إلى المصعد إلى البحر والكنيسة والمنزل، كل مشهد يحمل دلالاته ومكانته في البناء الدرامي للعمل، الذي لا اختلاف على ملحميته.
وجاءت لغة العرض مختلطة بين اللهجة الشامية والتونسية والعربية، كل ممثل حسب لهجته، وإضافة إلى المكان المتخيل وغير المدعوم بديكور، خلق الجعايبي مزيجا تغريبيا مثيرا للتساؤل للولوج إلى القضية الأساسية التي يريد معالجتها، التطرف، والتناحر، وعدم قبول الآخر.
الكثير من المشاهد التي فضحها العرض كرست العنف والكذب والنفاق. ما قامت به أستاذة العلوم إريكا من تصدّ عنيف لبنجامين كان يمكن أن يكون أقل حدة، لإنقاذه من التطرف الذي يبتلعه يوما بعد آخر، ومعاملة الأم لابنها، وهي التي تعاني بدورها في مجتمع لا يرحم، كانت قاصرة عن الإحاطة به، كما كانت ممارسات القس تجاه الأم ومحاولته الاعتداء عليها جنسيا، كلها كشفت مدى الزيف الذي يعتري المؤسسة الدينية، وعجز المجتمع العلمي والعائلي عن معالجة التطرف. ما يخلق سؤالا: كيف نعالج التطرف؟
وصلنا سابقا إلى قناعة حول التحضر، بأن مقياسه هو النظام المدني لا الأعراف، فيقاس التحضر بمدى قبول الفرد بالمدينة كنظام، ومدى ترسخ فكرة المجتمع المتنوع والذي ينخرط كل أفراده تحت شعار المواطنة، وانتفاء التمييز الديني والعرقي أو الشكلي، ومدى قبول اختلاف الميولات الفردية ومن بينها الجنسية.
في المجتمعات التي تطمح للتقدم والإنجاز الحضاري، الميولات الفردية دينيا وجنسيا هي فردية ولا مجال للتدخل فيها من قبل الآخرين أفرادا أو جماعات ما بقيت تخص الفرد، ومن ناحية أخرى لا يمكن مطلقا لمجتمع أن يتقدم في ظل التمييز العرقي والديني وتقسيم المجتمع وفق هذا التمشي.
في تونس مثلا، الديمقراطية الناشئة يشترط أن يكون الرئيس مسلما، ومن هنا ونحن متجهون إلى قاعدة الهرم، يفاجئنا التمييز الديني وحتى العرقي، الذي يعلو على كل معطى آخر، وهذا ما يخلق نوعا من النفاق الاجتماعي، الذي لن يؤدي بالضرورة إلا إلى مشهد مفرغ ومكذوب، لا يفرخ إلا العنف والفراغ الحسي والفكري والجمالي.
العائلة والمدرسة
في الفوضى ينمو المتطرفون وتشتد أفكارهم ظلاما يقينيا
تمكن العرض من رصد مكامن مرض التطرف وما يقابله من استهتار وفراغ وفوضى، في الفوضى ينمو المتطرفون وتشتد أفكارهم ظلاما يقينيا، وحينها يصبح من الصعب علاجهم. وإن كان العرض يتحدث عن المسيحية، فإن ذلك لا يعدو أن يكون مطية لنقد المجتمعات العربية التي ينخرها التقسيم العرقي والطائفي، والتي يتدخل فيها رجال الدين في كل تفاصيل الحياة من دخول الحمام إلى لون الملابس.
يفضح العرض الشعوذة والدجل الذي يمارسه المتطرفون، كما يعري نفاق رجل الدين، الذين يستعملون مكانتهم الروحية لاستغلال النساء والأطفال وغيره من ميولات مرضيّة، قد نرى أن النقد لم يكن مباشرا للمجتمع العربي، وقد يبرر منتجو العرض ذلك بأن النص مترجم، لكن نستدرك عبر سؤال بسيط: ماذا لو كان البطل مسلما؟ ماذا لو كان الكتاب الذي تسخر منه أستاذة العلوم القرآن؟ ماذا لو غيرنا القس بإمام مسجد والكنسي بجماع؟
الإجابة واضحة جدا، سيهيج ويموج عدد كبير من المؤمنين، بلا فكر موجهين كل عنفهم وغضبهم تجاه المسرح، غضب قد يصل إلى العنف والتدمير، في خمرة من اللاوعي التي تمد جذورها عميقا في كل أفراد هذه المجتمعات التي لم تنتج التحضر، فـ”التحضر صناعة استعمارية”، إنها مجتمعات تدعي الحضارة، وليس ذنب أفرادها، بل الذنب الكبير هو المؤسسة التعليمية، التي ما تزال تدرّس إلى اليوم وفق تقسيم ديني وطبقي وجهوي وعرقي، التمييز والتعصب، ولو من دون وعي، هذا علاوة على العائلة التي يبدو دورها إما مغيبا وإما سلبيا كما رأينا في حالة بنجامين أو الطفل الأعرج، الذي يأتي به والده كل يوم متأخرا إلى المدرسة يتركه ويذهب.
تكفي نظرة سريعة لنعرف أن أغلب العائلات مفكك ومنهار ومتخلف، أما المدارس، فأغلبها يعاني من ضعف المناهج والرجعية وقلة خبرة الإطار التربوي واهتراء البنية التحتية.
إذا أردنا أن نبحث في أمراضنا فلنعد إلى مؤسستين هامتين، العائلة والمدرسة، وإذا أردنا أن نعرف مستقبل شعب ما، فلنقيم أوضاع العائلات والمدارس.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال