بين دَوَّارٍ يُسمى الرابع (نسبةً إلى ترتيبه صعوداً من وسط المدينة إلى جبلها الأشهر) في عمّان، وقصرٍ يُسمى الصفا في مكة المكرمة، امتدت خيوط المال والسياسة، وتشابكت، على نحوٍ لا يغري بشيء، مثلما يغري بمحاولة تفكيكها، أو قُل تَتَبُعها؛ مساراتٍ ومنعرجاتٍ والتفافات.
فالحيُّ الأردنيُّ الذي يُعتبر من أرقى أحياء العاصمة، وتتربّع على ناصيته دار رئاسة الوزراء، صار، منذ قرابة ثلاثة أسابيع، ميداناً للمتظاهرين الغاضبين من ثقل الأعباء الضريبية المتزايدة على كواهلهم، ثم حين بلغت هتافات هؤلاء أروقة المقر السعودي الفخم الذي يبعد نحو ألفي كيلو متر، ويُطِلُّ على المسجد الحرام، اختار "خادم الحرمين"، وهو المقيم هناك في العشر الأواخر من رمضان المبارك، جرياً على عادة الملوك من أبناء عبد العزيز آل سعود، أن يتمهل أياماً عدة، قبل أن يدعو قادة الكويت والإمارات، فضلاً عن الأردن، إلى قمةٍ رباعيةٍ عاجلةٍ، بغية البحث في سُبل مد يد العون لإنقاذ الجار الشقيق من أزمته الاقتصادية الخانقة.
وما كان لهذا الوصل الطارئ بين هموم مسرحين سياسيين عربيين، متباينين، أولهما أردني شعبي، وثانيهما سعودي رسمي، أن يثير أية شجون، أو شكوكٍ، لو أنه كان مجرد تعبير عفوي عن قيم النخوة والشهامة التي اقتضتها مشاعر الأُخوّة العربية، وفق ما روّجت مواقع إعلام سعودية تحت وسم (#الأردن_في_قلب_سلمان)، أو حتى لو أنه كان مجرد فصل جديد من "دبلوماسية العمرة" التي كثيراً ما استثمرت أجواء الرحاب المقدسة، في شهر الصوم، لترميم تصدّعاتٍ، أو تمرير مشاريع، إقليمية ودولية، يصعب التوافق عليها في ظروفٍ وأمكنةٍ أخرى.
لكن قليلاً من التدقيق في الخيوط التي مُدت على عجل بين عمّان ومكة سيقود إلى معطياتٍ ومعانٍ تتناقض مع الكلام الرسمي اللزج الذي سرعان ما تحوّل إلى طنينٍ تفيض به وسائل التواصل الاجتماعي؛ فهنا، أي عند دوار عمّان الرابع، قدّم الشارع والسلطة، في ذروة اختلافهما، نموذجاً مبهراً على إمكانية إسقاط الحكومات بالتظاهر السلمي، وهناك، أي داخل قصر الصفا، في مكة، اهتزت، بفعل ذلك، أسس الثورة المضادة التي يرعاها ولي العهد، بوصفها حركةً انقلابيةً هائلة، ما عادت تكتفي بإغراق الربيع العربي بدم أبنائه، بل جعلت منه فزّاعة رعبٍ، غايتها كبح جماح كل حالم بالتغيير، أو الإصلاح، في المنطقة برمتها.
وربما يكون من قبيل المصادفة أن يتزامن عقد اجتماع مكة الرباعي يوم السادس والعشرين من رمضان، مع ذكرى مرور سنة قمرية كاملة، على حدثٍ تاريخيٍّ مفصليٍّ شهده قصر الصفا أيضاً، وهو صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، مطيحاً ابن عمه محمد بن نايف، في انقلابٍ أبيض، أخذ السعودية بعده إلى مغامرات سياسية كبرى، غير أن ما يخلو من كل احتمالات المصادفة هو تكييف الدعم المالي الذي قرّرت الدول الخليجية الثلاث تقديمه إلى الأردن، بحيث يكفي ليُغنيه عن فرض التعديلات الضريبية التي أدت إلى انفجار غضب الشارع، ويشحّ ُليُبقيه، في الوقت نفسه، تحت ضغط الابتزاز السياسي، أملاً بتحويله إلى تابع، يجري وراء حُكّام السعودية والإمارات، أنّى جروا، لا سيما على صعيد انخراطهم شبه المعلن في التمهيد لفرض ما تسمى "صفقة القرن" مع إسرائيل.
الخوف من الأردن، إذن، لا الخوف عليه، هو ما اضطر قادة السعودية إلى فتح خزائنهم، والتقطير منها في حلوق الأردنيين، بعدما اكتشفوا، وحلفاؤهم في معسكر الثورة المضادة، أن عقوبات وقف الدعم المالي التي انتهجوها ضد الملك عبد الله الثاني، منذ سنتين، قد بدأت تؤدي إلى نتائج عكسيةٍ. وبدلاً من أن تفرض عليه الانصياع لسياساتهم، بلغت تفاعلاتها حدَّ إيقاظهم على وقع هتافاتٍ تُنبئ ببقاء الربيع العربي على قيد الحياة، وهم الذين كانوا يظنون أنهم دفنوه مرة، وإلى الأبد.
ماجد عبد الهادي - صحفي وكاتب فلسطيني
المصدر : العربي الجديد
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال