تعود بنا الذاكرة التي يُفْتَرَض بها أنّها ما زالت حيّة (وحيّة هي صفة أولًا وهي خاصّة ذاك المُسِمّ الزاحف إلى مواطن مواجعنا !)، تعيدنا إلى أرقام مُثبّتة لا تفسح للجدل بمجال وهي تشير إلى بقاء لبنان “الشَغّال”، أي الرسمي المتمثّل بمؤسّساته الدستورية العاملة، المولجة مهام إدارة شؤون الناس والسهر على رفاه الشعب (كلمة فخمة حتمًا في غير مكانها)، لسنين من التعطيل، لأنّ المسؤولين عن إدارته يمضون “العمر” بشراء الوقت الذي يصبح في النهاية حياة ضائعة.
ثمّ يُضاف إليها أشهر من الممارسات المخالفة للدستور والقانون والأعراف والصيغة والميثاق والحِكمة وخاصة الأخلاق ومنها ما امتدّ، غير ميثاقيًّا، من كانون الأول 2006 وحتى أيّار2008 (2).
ويرفدها تعطيل العمل جَهارًا ثلاثة أشهر ونيف، في حكومة لم تنتج أساسًا، على أثر حادث أمني، أليم لا شك، في منطقة عالِية الحساسيّة (على أساس أنّ الدولة مجهّزة بعدّاد “ريختر” يقيس، في كلّ وقت، حساسيّة المناطق والطوائف، فيوازي بين “الشاطر والمشطور والكامخ بينهما”).
هذا وأنّنا لم نحتسب بعد أيام “إطفاء المحرّكات الحكومية” والأيام التي تفصل فيما بين إستقالة حكومة ما والدعوة إلى الإستشارات المُلْزِمة (وما زلنا لا نعلم مُلْزِمة لمن) وبين تسمية المُكلّف بتأليف الحكومة الجديدة – وأدعوكم بإلحاح إلى ملاحظة حرص وإصرار “كلّن يعني كلّن”، السياسيين والمسؤولين دستوريًّا وحتى الإعلام وسائر البُهُلْ من الشعب “العظيم” على إستعمال كلمة مُلْزِمة التي أطبقت على الدستور بحيث بات لا فكاك من تلازمها (حتى الموت) مع كلمة إستشارات.
هل هذا كلّ شيء ؟ لا … أَضِفْ أيام تعطيل التشريع في المجلس بسبب تسكيره أو تهريب نصابه وهي أيام بالمئات “المؤلفة”.
والأيام الضائعة ليست قليلة، والأرجح أنها ستستمر، في تفسير ما هو “دستوري” في كلمتيْ الشغور والفراغ الرئاسيّين ومن ثمّ تحديد نصاب جلسات الإنتخاب، الأولى منها ولاحقاتها من الجلسات، وفي النهاية إنتخاب رئيس للبلاد، ومنها ما تكرّر بين العهود (3).
في محصّلة هذه الأرقام، عاش اللبنانيون ما تجاوز بِاَشواط ثلث عمر كلّ من عهود ما بعد “التَحَرّر” من “الوصاية”، “نَعِموا” خلالها بتعطيل كامل للعمل المؤسّساتي العام. أمّا ما نتج من عمل في الثلثين المتبقيين “الفاعلين” فبات يُبرّر التَرَحّم على إنجازات الثلث المُعطَّل (ولا أظنّ أن هذا هو ما كان يدور في ذهن “المناضلين” من أجل الثلث المعطِّل في مؤتمر الدوحة).
يحصل كلّ هذا في ظلّ (ذلّ بعد التصحيح) “نظام” ليس فيه أي مرجعية دستورية داخلية قادرة على الحسم (وبرأيي إذا كان هذا كلّه أسمه نظامًا فماذا قد تعني كلمة فوضى؟). هذا في النصوص، ولكن الأهم يبقى ما يبيت في النفوس، نفوس أصحاب القرار من سياسيي لبنان “الطائف” على كلّ الطوائف، وأين منهم مفاهيم “وطنيّين”، لا طائفيّين”، إطفائيّين، غير زبائنيّين بمعنى أنهم غير تابعين للمُسْتقوي عليهم بتفرّده بزعامة طائفته ؟
وعلى سبيل التكرار والتأكيد نسأل (والشعب المسحوق هو الذي يحقّ له حصرًا أن يسأل وليس المسؤول الذي عليه أقلّه أن يُسائل (بفتح وكسر الهمزة)، إذن نسأل: ما هي طبيعة هذا النظام؟ هل هو: برلماني، جمهوري، توافقي، تعَدّدي، طائفي، ميثاقي، ديمقراطي، كونفيديرالية طوائف، فوضوي (بمعنى (Anarchy ؟ وبعد الملاحظة أنّ، برأي المُعَطِّلين وخبراء تبرير التعطيل والتعطيل المضاد أي كلّ من يردّ الهدية بأوجع منها، فكلّ ما ذكرنا أعلاه قد حصل “وفق ما ينصّ عليه الدستور”، صحّ ؟
ونضيف أخيرًا ترطيبًا للجوّ، إذا أمكن ذلك، نضيف إلى هذه السطور: ردًّا على الفصيح الذي تألّق بالقول أنّ “ميثاقية التكليف تختلف عن ميثاقية التأليف” وعليه… وعلى نَغَم الكلمة نُلحِّن أنّها لا بد من أن تختلف أيضًا عن ميثاقية التخريف والتخويف والتحريف والتسويف والتزييف و.. وبعد، علينا أن نضيف إلى “سنين ومرّت..” على التعطيل المتعمّد ما حصل بَيْن بين هذه المحطات “التاريخية” من حالات حَرَد واعتكاف وغياب وسفر وكسل وزعل وزغل وترف ودلع مصحوبة دائمًا بالنكد السياسي اللبناني المُتميّز الذي تعجز اللغة العاقلة عن وصفه.
كلّ هذه الحالات كانت ميثاقية ومخالفة للدستور في آن، أو أنّها كانت دستورية ومخالفة للميثاق، لم نعد نعلم، وحتمًا هي باتت الإثنين معًا وضدّ الكلّ ؟
وزيادة في الإحتياط، أي لشراء المزيد من الوقت نحن، اليوم بالذات، في مرحلة بين مرحلتين: تكليف بالأرقام الدنيا يعقبه تأليف بصراعاته القصوى…
إنفاذًا للمادة 7 من الدستور اللبناني (4)، الشعب يطالب أن يصبح شراء الوقت بالدولار الطازج، سيّما وأنّ الوقت هو وقت الشعب وأنّ ثمن شراء الوقت يتمّ بمال الشعب.
مواطن سارح في الوقت المُسْتَقْطَع
(1) نورد الواضح والثابت من الأرقام لتلك الأيام الضائعة على لبنان ومنها أولًا ما يتعلق بتأليف حكومات الألفية الجديدة وأبرزها حكومات السادة (*) رؤساء الوزراء السنيورة (2008 بعد الدوحة) 44 يومًا، الحريري (2009) 135، ميقاتي (2011) 139، سلام (2014) 320، الحريري (2016) 45، الحريري (2019) 252، دياب (2020) 33، أديب (2020) 27.
(2) عندما استقال الوزراء الشيعة كلّهم وتضامن معهم وزير من خارج “الميثاق”، ولم يمنع ذلك من أن يكون للحكومة الساقطة “ميثاقيًّا” قرارات “دولية” ، لا دستورية ولا ميثاقية، كارثية على وطن ما زال يعاني منها.. وسيظلّ.
(3) بين الرئيسين أمين الجميل وإلياس هراوي 13 شهرًا، ثمّ بين الرئيسين ميشال سليمان وميشال عون من أيار 2012 وحتى 31 تشرين الأول 2016.
(4) المادة 7 من الدستور اللبناني: “كلّ اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية، ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم.”
(*) إنّ إعتماد لقب السيد للرؤساء ليس إنتقاصًا للمقام وبالتالي لطائفة ما بل تنفيذ لقرار الدولة الذي قضى بإلغاء جميع الألقاب وقد تمّ “تعميمه” وما زال يدور في “دوّيْخَة” الدوائر.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال