الموسيقى والأناشيد الصوفية في تونس من موروث روحي إلى فلكلور شعبي

"زيارة".. عرض صوفي يكشف مدى تعلق التونسي بالأناشيد الروحانية.

بعد إيقاد شمعته العاشرة وعرضه لعشرات المرات في المهرجانات التونسية وتحول أناشيده إلى مظاهر للفرح والاحتفال، أثبت عرض "زيارة" للفنان التونسي سامي اللجمي أن الأناشيد والموسيقى الصوفية في تونس تحولتا من كونهما موروثا روحيا دينيا إلى فلكلور شعبي يكشف عمق تعلق التونسي بتراثه وهويته.

الطريقة طرائق في المذهب الصوفي وكذلك في الفن، فطرق حب الله ونبيه تختلف باختلاف السالكين والمريدين، كذلك طرق الإبداع الموسيقي، فما بالك إن اجتمع ثنائي البحث الموسيقي والموروث الصوفي، وخاصة تراث الإنشاد الصوفي في تونس وما يميزه عن غيره في الأقطار العربية، رغم الاشتراك الكبير على مستوى أعلام وأقطاب هذا المذهب الديني والذين كان لهم مريدون في شمال أفريقيا ودول أخرى من الشرق الأوسط.

حول هذا الموروث جاءت فكرة عرض “زيارة” الذي أشعل هذا العام شمعته العاشرة، ليعلن عن ميلاده في ثوب جديد تحت عنوان "زيارة 2"، والذي سجل منذ بدايته أنه عمل يعرّف التونسيين بعدد من الأناشيد الصوفية الشهيرة في الزوايا والمزارات الدينية الشعبية المنتشرة في مختلف مدن الجمهورية، لكنه سرعان ما تحول إلى فلكلور شعبي يزين أغلب الأعراس والمناسبات السعيدة للتونسيين.

هم اليوم “يحجون” بالآلاف فيبدون كمريدين يسيرون خلف سامي اللجمي مخرج العرض حيثما ولى وجهه، وهو الذي منحته تجربته في البحث الموسيقي وفي عرض إنتاجه على امتداد عشر سنوات خبرة ومعرفة أكثر عمقا بجانب مخفي من هوية التونسيين، لم يكن يعلمه إلا قلة قليلة ممن يحضرون طقوس "الحضرة" و"الزيارة" الأسبوعية لمقامات الأولياء والصالحين.

في عام 2013 بدأت رحلة عرض “زيارة” الموسيقي للفنان التونسي سامي اللجمي، عرض ربما لم يتوقع له المتابعون إلا أن يكون زيارة فنية خاطفة تنتهي بعد فترة قصيرة بمجرد تحقيق ربح مادي أو حضور معنوي في المشهد الموسيقي التونسي، لكنه بعد عشر سنوات أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه عمل موسيقي متكامل وجدّي نجح في إقناع الأذن الموسيقية للجمهور التونسي، وجذبه نحو متابعة المهرجانات الصيفية والرقص على أنغام أناشيده في أعراسه ومناسباته السعيدة. فبتنا نرى “سيدة يا نغارة” و”يا للا جيتك بدخيل” و"بابا سالم" و"ناجيت زاير" تتحول من أناشيد روحانية إلى أناشيد للتعبير عن الفرح والفخر بالانتماء إلى تونس وحضارتها.

لم يستسهل اللجمي البحث في التراث الموسيقي التونسي ولا في إعداد عرض موسيقي صوفي فرجوي يجمع بين الموسيقى والإنشاد ويؤمنه في جزئه الثاني 116 شخصا بين عازفين وراقصين ومرددين وتتمازج فيه نغمات الآلات الموسيقية التقليدية من دف يلقبه التونسيون بـ”البندير” إلى الدربوكة (الطبلة) والطبل والناي والآلات الموسيقية الحديثة التي تتجمل بأصوات المنشدين القادمين من مختلف ربوع البلد.

"تخميرة" موسيقية

اجتمعت فوق الخشبة المقاطع الموسيقية والأناشيد مع عناصر سينوغرافية ومتمّمات بصرية مدروسة تبدأ منذ اللحظات الأولى للإعلان عن انطلاق العمل وتتماشى مع سياق العرض الصوفي وخصائصه الروحية، إنها “زيارة” فعلا ينير فيها “الزيار” (الزائرون) الشموع ويشعلون البخور بأنواعه المختلفة وروائحه الفواحة، وبأزيائهم المحتشمة التي طغى عليها الأبيض ودلالاته الرمزية.

أول امرأة تنشد طوال مسيرة العمل الفني 

هكذا هي الألوان في عرض “الزيارة” منسجمة مع الطابع الصوفي ومنهج الصوفية الفكري، فحتى الأعلام التي يرفعها الراقصون هي الأخرى تتلون بألوان متناغمة يطغى عليها الأخضر بكونه رمزا للعلم والمعرفة ولقباب العلم الخضراء، والأحمر الذي يرمز إلى الروح الصوفية وسمو الروح الباحثة عن العشق الإلهي، بالإضافة إلى ألوان أخرى أضافها المخرج للحفاظ على الجمالية البصرية للعرض، ومنها الأصفر والأسود والأزرق، تدور كلها في فلك الأبيض الذي يرمز إلى السلام الداخلي الذي ينشده الباحث عن الله والمحب له والباحث عن كل حلقات الذكر للتقرب من خالقه وإدراك حقيقة الوجود.

ورغم إضفائه لمسات موسيقية معاصرة مزجت الفلامنكو والجاز بموسيقى النوبة الصوفية، لم يفقد سامي اللجمي العرض هويته وأصالته، بل كان “مايسترو” يعرف كيف يعزف نوتاته الموسيقية ويقود أفراد مجموعته الكبيرة ليراوحوا بين الإنشاد واللوحات الكوريغرافية المقتبسة من صنوف الرقص في “الزيارات” التونسية.

وقد راوح العرض، الذي “تخمر” فيه الجمهور على أنغام 45 أنشودة، بين الأداء الفردي للمدائح والأذكار وبين الأداء الجماعي للتغني بالخالق ومدح الرسول والأولياء الصالحين. وحضرت في “الزيارة 2” الأناشيد والابتهالات بأصوات كلّ من منير الطرودي وأيمن بن عطية وإبراهيم الرياحي وروضة عبدالله التي انضمت إلى فريق الزيارة لتكون أول امرأة تؤدي الأناشيد الصوفية طوال عشر سنوات من عمر هذا العرض، فكسرت الذكورية المسيطرة عليه وأضفت الكثير من الواقعية على مشهد “الزيارة” الفني.

التونسيون يبدون كمريدين يسيرون خلف سامي اللجمي، وهو الذي منحته تجربته معرفة بجانب من هوية التونسيين

وذكّرت روضة عبدالله بأسماء صوفية أنثوية، يعرفها التونسيون ويزورون مقاماتها ويتغنون بها، منها “السيدة المنوبية” المرأة القوية التي تحدت ذكورية المجتمع في العهد الحفصي خلال القرن الثالث عشر في تونس، وأظهرت ذكاء استثنائيا وحدسا مميزا. إنها امرأة نموذجية تحدت المعايير الاجتماعية في عصرها. درست القرآن وسعت إلى تأويله لفهم معانيه، كما اعتمدت الشكّ كطريق نحو الإيمان. كانت تغادر منزلها دون رجل مرافق لها، وتجتمع مع الرجال مناقشة شرسة ومحاورة إياهم، ويقال إن تصرفاتها هذه هي التي دفعت بعض الشيوخ للدعوة إلى رجمها. لكنها تصرفات بوأتها مكانة علمية وتاريخية كبيرة وجعلت لها مريدين يتغنون بها ويتقربون من خلالها إلى الله.

التراث الصوفي، وإن كان في فترة ما من تاريخ تونس منحصرا في الفضاءات المغلقة، من مقامات ودور عبادة وحتى مسارح مهرجانات مسرحية مغلقة وذات جمهور محدود، صار اليوم يحظى بانتشار كبير، وسرعان ما يحفظ أناشيده التونسي ويرددها بكثير من الاعتزاز بالانتماء، سواء كان صوفي الفكر والانتماء أو متأثرا بالتصوف أو ربما لا يعلم عنه شيئا سوى أنه يتذكر أجداده وكبار الحي حين كانوا يحملونه معهم طفلا صغيرا يستمتع بزيارة “للا المنوبية” و”بلحسن الشاذلي” وغيرهما.

وحتى الأجيال الناشئة التي لم يسعفها الحظ بأن تعرف عالم “الزوايا” والزيارات عن قرب، هي اليوم تبدو منبهرة بكل مادة تراثية موسيقية تقدم لها بكثير من الجدية، تحترم الطابع الموسيقي والهوية التي تميز التونسي وموسيقاه الفلكلورية.

عرض "زيارة" ربما يكون فاتحة للبحث والاطلاع على عالم الإنشاد الصوفي. يجتهد صاحبه، في جزأيه الأول والثاني، في تقديم جزء بسيط من الأناشيد، فكما هو معلوم لكلّ طريقة صوفية أناشيد مخصوصة تطلق عليها تسميات متعدّدة تختلف من طريقة إلى أخرى.

والإنشاد الصوفي في تونس يمثّـل أحد أهم مكونات التراث من حيث وفرته وانتشاره بين الناس وتداوله في حلقات الذكر وسائر الاحتفالات الدينية والدنيوية، ويعدّ ظهوره امتدادا لانتشار التصوّف الإسلامي الذي نشأ في المشرق العربي نتيجة لعدّة عوامل سياسية واجتماعية.

تراث لا يموت

تقول المراجع التاريخية إن “الإرهاصات الأولى للحياة الصوفية وما يتصل بها من مجالس الذكر تعود إلى العهدين الأغلبي والصنهاجي، لكن مجالس الإنشاد وحلقاته في شكل جماعي لم تظهر إلا في العهد الحفصي على إثر مجيء أبي مدين شعيب الأنصاري (ت595هـ/1198م) هذا القطب الذي اجتمع فيه سر تصوف المغرب بحكمة تصوف المشرق عند لقائه بعبدالقادر الجيلاني (ت564هـ/1168م). وقد كان لأبي مدين أثره في شخصيات مثل عبدالعزيز المهدوي (ت620هـ/1223م) والدهماني والنفطي (ت610هـ/1213م) وأبي سعيد الباجي (ت628هـ/1231م) الذي أثّر في أبي الحسن الشاذلي (ت658هـ/1258م) عند قدومه من المغرب".

وتذكر الموسوعة التونسية المفتوحة (موسوعة إلكترونية) أن "فن الإنشاد الصوفي بتونس ازدهر أساسا مع مطلع القرن الخامس عشر، وهو قرن تعاظم فيه انتشار الحركات الصوفية وتعميم مبدأ الطرقية، إذ ظهرت تلك القولة الشهيرة التي تردّدت على ألسنة العامة: من لا طريقة له فطريقته شيطانيّة، أو: من لا ولي له فوليه الشيطان. وقد برزت إلى الوجود التآليف الكثيرة المتعلقة بأنواع الصلاة على رسول الله محمد وطرائق ذكر المولى وحمده وتسبيحه والتهليل باسمه".

"زيارة" فاتحة للبحث والاطلاع على عالم الإنشاد الصوفي.

من طقوس الزيارة في تونس

 يجتهد صاحبه، في جزأيه الأول والثاني، في تقديم جزء بسيط من الأناشيد

كما "تقوم الطرق الصوفية بواسطة الإنشاد الجماعي والمستمر بالمساهمة في تشكيل وإعادة تشكيل الذاكرة السنية المشتركة والمخيال الإسلامي الجمعي. ويصح هذا بالخصوص على الطرق المتفتحة على جل الرموز الصوفية ويتجلى كذلك في راياتها (السناجق) التي كانت تحمل أحيانا عبارة ‘لا إله إلاّ الله محمد رسول الله’ في الوسط وفي أركانها الأربعة أسماء الخلفاء الأربعة".

الطريق الصوفي طريق محبة وعرفان، طريق وجد وجذب ومعراج روحاني وكشف رباني كما تؤكد ذلك كل أدبيّات أعلام الصوفية. ويلحّ أعلام الصوفية في مناهجهم وطرقهم المختلفة على ضرورة الصبر على أذى العامة وعدم التدخل في أمور الدنيا والاهتمام بالنفس أساسا وترويضها على محبة الله وطاعته والتحلّي بآداب الطريق والسلوك. وهو ما تنقله أناشيد الصوفيين إلى المريدين وحتى محبي الموسيقى.

و"زيارة" بجزأيها الأول والثاني يمكن اعتبارها جولة روحية موسيقية كشفت ثراء المخزون التراثي الصوفي التونسي الذي يسمو بالروح عن العالم المادي ويحلق بالأنفس في عوالم نقيّة تنشد السلام والمحبة، جولة طوع فيها الفنان سامي اللجمي التراث محاولا تطويره وتقديمه في رؤية إخراجية تتوفّر على أبعاد جمالية معاصرة دون المساس بجوهر الأناشيد والنص المنطوق.

يوما ما قال جلال الدين الرومي وهو أحد أعلام الصوفية "من دون الحب.. كُل المُوسيقى ضجيج.. كل الرقص جنون.. كل العبادات عبء"، وفي "الزيارة" الصوفية وكذلك "زيارة" سامي اللجمي كل الموسيقى كانت لتكون مجرد ضجيج وكل الرقص جنونا وكل النوتات نشازا ما لم توجد بحب.

حنان مبروك - صحافية تونسية / العرب