القراءة ممتعة مع كتب خفيفة الوزن والمحتوى في متناول الأيدي والجيوب.
فعل القراءة فعل حياتي في العديد من المجتمعات المتقدمة، ويتجاوز التحصيل العلمي أو المعرفي إلى المتعة، لذا لا نجد فصلا محددا للقراءة أو مكانا محددا أو غيره، إنه متاح أينما كان، وهنا برزت ظاهرة القراءة في الشواطئ أثناء العطلة الصيفية، ما حتم ولادة نوع جديد من الكتب في شكله ومحتواه، هو كتب الصيف، فهل واكبت المجتمعات العربية ذلك؟
ليس هناك للقراءة من مواسم، فهي سلوك بشري أشبه بالطبيعة الثانية لدى الأمم والمجتمعات المتطورة، لكن طبيعة فصل الصيف تجعل الناس يركنون لنوع ممّا يمكن تسميته بـ”الكسل المنتج” أي تلك القراءة المسترخية في العطل والمنتجعات الصيفية على الشواطئ.
ولكي لا يقطع الواحد علاقته بالكتاب في مواسم العطل والرحلات، أوجد مدمنو القراءة لأنفسهم صيغة تغلّب المتعة على الاستفادة، إذ لا مجال للتفكر العميق في محتوى الكتاب، ولا داعي للاستعانة بقلم الرصاص لتدوين الملاحظات كما نفعل مع “كتب الشتاء” أمام المدفأة، إنها ما يمكن أن نسميه “كتب الصيف”.
الكسل والكتب الخفيفة
كتب الصيف خفيفة الوزن والمحتوى، وهي في متناول الأيدي والجيوب، تهضمها الرؤوس التي كوتها حرارة الشمس وتقرأ فوق الرمال وتحت المظلات وفي ساعات القيلولة، حتى أن بعضا منها له أغلفة مقاومة لمياه البحر.
أما عن المواضيع التي تحتويها أو تعالجها فهي تتميز بالخفة والسلاسة والتشويق مثل الروايات العاطفية والحكايات الطريفة أو تلك المتعلقة بالخيال العلمي أو عادات الشعوب وتقاليدها، وذلك تماشيا مع الرحلات الصيفية التي تسمح بها الإجازات.
القراءة سلوك بشري تحول إلى طبيعة متأصلة لدى المجتمعات الراقية، وليس هناك من يحرمهم منها في كل المواسم
القراءات الصيفية تشبه الأنشطة الرياضية الاستشفائية أي تلك التي لا تتحمل جهدا كبيرا وعناء زائدا، وذلك كي لا ينقطع الواحد عن هواياته اليومية.
ومع حلول الصيف بدأت المنصات المتخصصة في بيع الكتب وتسويقها بالتنافس على تقديم جديدها ومقترحاتها لهذا الموسم، خصوصا بعد التعافي من جائحة كورونا وعودة النشاط السياحي إلى سابق عهده تدريجيا.
ومن الجدير بالذكر أن العطلة الصيفية تعتبر ظاهرة حديثة وليست ضاربة في القدم لكونها مرتبطة بتطور تاريخ العمل.
وكان لأفراد الأرستقراطية والطبقات القوية والنافذة مساكن خاصة بفصل الصيف، فتعممت الظاهرة في القرن العشرين مع إحداث الإجازات لكافة العمال، وتحققت مقولة “الحق في الكسل” التي كان قد دعا إليها المفكر اليساري الفرنسي بول لافارغ، زوج ابنة كارل ماركس.
وهكذا تحولت فكرة العطلة الصيفية من قضاء أيام هادئة في إحدى مناطق الوطن إلى السفر نحو مناطق بعيدة وغريبة، وأصبح للعطلة بعد ثقافي بعد أن كانت تقتصر على مجرد الترفيه وأخذ قسط من الراحة قبل استئناف العمل.
اختيار الكتب المناسبة لإجازة الصيف لم يعد مجرد سلوك روتيني نتهيأ له كما نفعل في اختيار حقيبة السفر وتجهيزها، ولم يعد الكتاب مجرد أكسسوار تختاره السيدة على لون البيكيني أو الرجل على لون الشورت أثناء الاستراحة تحت المظلات وفوق الرمال.
أصبح الأمر بمثابة التخصص العلمي القائم بذاته، ويعتبر كتاب غلوريا صولر “عطلة الصيف” بمثابة تحليل سوسيولوجي وتاريخي لمفهوم العطلة، وهي الظاهرة التي تنتج كميات كبيرة من الأموال عبر العالم، و تخلق حلما يسعى الناس إلى تحقيقه لمدة أشهر عديدة.
المسألة إذن، تأخذ قيمة تسويقية متشعبة كما هو الحال مع الأفلام والمسرحيات والأغاني والاستعراضات التي يعدها أصحابها خصيصا لموسم الصيف والإجازات.
لا شيء مجانيا أو اعتباطيا فيما يخص السلوكيات البشرية والأهواء الفردية والجماعية، فكل عادة إنسانية لديها من يلاحقها بالتنظير والتأطير والاحتواء. وخلف كل حالة استرخاء يقف تجار ومنظرون ومسوقون وموجهون.
هذا عن مشهد الاسترخاء الغربي في الإجازات الصيفية وعدم غياب الكتاب في حياتهم اليومية، حتى لو كان هذا الكتاب من تلك المصنفات الخفيفة والمسلية، إذ ليس من السهل أن نقرأ عن قضايا فكرية معقدة ونحن ملء صخب الشواطئ والمنتجعات.
المجتمعات المتطورة لا تعطي لأنفسها إجازة مطلقة رغم الاسترخاء، أما في مجتمعاتنا فالعطلة تعني العطالة، والاسترخاء يعني التراخي، أما عن الكتب التي ترافقنا في الإجازات فلا توجد لا هي ولا الإجازات في حياة الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
القراءة متعة
اختيار الكتب المناسبة لإجازة الصيف لم يعد مجرد سلوك روتيني نتهيأ له كما نفعل في اختيار حقيبة السفر وتجهيزها
إن وجد هذا التقليد لدى حديثي النعمة وبعض الأثرياء في العالم العربي فهو لا يعدو أن يكون تقليدا باهتا واستنباطا سمجا وماسخا لما يفعله الناس في البلدان المتطورة.
لا يمكن التعميم بطبيعة الحال، لكن قلة قليلة لدينا تجنح نحو الجمع بين المتعة والاستفادة في إجازة الصيف.
الأمر يبدو واضحا وبسيطا، وهو أن الحالمين بقضاء إجازة كما ينبغي لها أن تكون، يمتلكون الأفكار الخلاقة ولا يملكون الأموال لتحقيقها، ذلك أن هؤلاء في غالبيتهم من المثقفين المنتمين إلى الطبقة المتوسطة أو الفقيرة. وهذه الفئة هي الوحيدة القادرة على اقتناء الكتاب دون سواه من “وسائل الترفيه” إن صح التعبير.
وقديما قالت العرب “يُعطى الجوز لمن ليست له أسنان” أي أن الذين يتقنون التمتع بالإجازات الصيفية واختيار الوجهات المناسبة والكتب المناسبة، لا يملكون الإمكانات المادية التي تضمن لهم ذلك.
المتجول في الأكشاك السياحية إلى جانب الشواطئ العربية، يلاحظ على الرفوف وجود الأكسسوارات التقليدية الخاصة بالبحر، لكنها تخلو من الكتب إلا فيما ندر.
القراءات الصيفية تشبه الأنشطة الرياضية الاستشفائية أي أنها لا تتحمل جهدا كبيرا وعناء زائدا
إنساننا العربي لا يقرأ في الشتاء، ولا حتى في المقررات المدرسية والجامعية. فما بالك بالصيف؟
الرؤوس منكبة على الموبايلات في كل الفصول، حتى أنهم يسألون عن تلك الأجهزة التي لا تتأثر بالمياه. ومع ذلك يقولون لك إنهم يقرأون لمجرد تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وكأن المجتمعات الغربية قد غفلت عن هذا الجهاز الذي يصنع في بلادهم، ولا يدرك الناس لديهم ـ على عكسنا ـ بأن الموبايلات يمكن أن تعوض الكتب الورقية.
القراءة سلوك بشري تحول إلى طبيعة متأصلة لدى المجتمعات الراقية، وليس هناك من يحرمهم منها أو يعوضها في كل المواسم، ومهما تغيرت الأحوال والوضعيات.
صحيح أن الصيف ليس موسما للقراءة، لكنه فصل للاستمتاع فلماذا لم نتربّ على أن القراءة متعة قبل أن تكون واجبا أو ضرورة كقراءة الفواتير أو طريقة للاسترزاق كقراءة الأكف والفناجين.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال