Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

بؤس المشهد وضرورة الدولة في الأردن

 سأسمح لنفسي أن أعيد سرد نكتة ذكية، لكنها دوما تحضر في ذاكرتي أمام كل انعطافة في المشهد السياسي الأردني.

هي نكتة أصلها وتركيبها أميركي، لكنها على طرافتها لها دلالات قد تجد فضاء لها في المشهد "الإصلاحي" الأردني.

تقول النكتة إن رئيس مجلس إدارة شركة كبيرة جدا، وقف حاملاً وثيقة عمل أصلية يريد تصوير نسخة منها فتوجه بنفسه إلى مكتب السكرتاريا الخاص بجناحه المكتبي، ووقف بجانب آلة من الآلات في الغرفة وسأل السكرتيرة الأقرب إليه: لو سمحت، قولي لي كيف يمكن أن أستخدم هذه الآلة مع هذه الورقة الثمينة الأصلية والتي لا أملك منها إلا هذه النسخة فقط؟ بكل بساطة، تناولت السكرتيرة الورقة الثمينة الأصلية بنسختها الوحيدة ووضعتها في الآلة لتخرج من طرفها الآخر شرائط طولية مقصوصة ومتلفة تماما. وهنا سألها رئيس مجلس الإدارة: والآن، من أين ستخرج النسخة؟؟

في الأردن، وللأسف، تجد النكتة مكانها الصحيح دوما، وفي وسط المشهد المتكرر، فالملك - رأس الدولة- الذي يحمل أمنياته "الثمينة والأصلية" بنسختها الملكية الوحيدة (والتي صاغها بأوراق نقاشية مطروحة لم يناقشه فيها أحد) ويتوجه إلى طاقم حكوماته ورجال دولته في المؤسسات الدستورية، ويطلب منهم رأيهم بأمنياته ورؤيته "الشخصية" لتنتهي في ماكينة الإتلاف الرسمي (بيروقراطيا وتكنوقراطيا) على شكل قصاصات من عبث، إما متعمد ومقصود فيه الإطاحة بأي إصلاح سياسي يمس المكتسبات، أو عبث عفوي مؤسس على جهل هو بحد ذاته تراكم منهجي ومقصود أنتج في المحصلة نخب موفقة بل وموهوبة بإنتاج البؤس.

اللقطات الدلالية متعاقبة ولا يمكن رصدها لكثرتها، آخرها قبل كتابة هذا المقال كان ذلك المشهد البائس في مجلس النواب الأردني، والذي قدم أسوأ ما يمكن تخيله لمجموعة مشرعين "افتراضا"، مهمتهم في المرحلة الحالية العمل على تشريعات دستورية وقانونية تفضي "إفتراضا أيضا" إلى حكومات تشكلها الأحزاب التي ستصل، وهذا أيضا افتراض، بانتخابات مؤسسة على حياة سياسية حزبية!!

هؤلاء المشرعون منتخبون. انتخبهم مجتمع مشروخ عموديا ومنقسم أفقيا، لم يعد يرى فيمن ينتخبه نائبا عن أمة وظيفته التشريع والرقابة، بل انتهى بوعي سياسي سقفه الحقيقي "والواقعي" انتخاب أدوات خدمية مناطقية وجهوية قادرة على تقديم الحد الأدنى من خدمات التوظيف وتزفيت الشوارع، والواسطات مع المؤسسات الرسمية في دولة لم تعد فعليا قادرة على ان تستمر بوظيفتها الريعية منذ زمن طويل، ولن تعود إلى تلك الوظيفة مطلقا في أي مستقبل قادم.

هؤلاء "المشرعون" الذين شاهدهم العالم عبر كل قنوات الأخبار يتضاربون بالصفعات واللكمات أثناء ما يفترض انه أهم مناقشة لأهم تعديلات دستورية في البلاد، أثبتوا فعلا منسوب وعي ناخبيهم أو قد انتجتهم  قوانين انتخاب لن تنتج أفضل من هؤلاء.

الملك - رأس الدولة- كلف حكومة مدير مكتبه السابق، وأحد مستشاريه المقربين، برسالة تكليف واضحة "وغير مسبوقة" بالعمل فورا وضمن إطار زمن محدد لتحقيق خطوات عملية في الإصلاح السياسي، والملك أمر بتشكيل لجنة رديفة لحكومة مستشاره السابق رئيس الحكومة الحالي، ووضع أقرب مقربيه وثقاته رئيسا على اللجنة وهو أيضا رئيس وزراء أسبق للعمل مع أوسع لجنة تاريخيا في عدد أعضائها للخروج بمخرجات على صيغة مقترحات "وطنية شاملة" تهدف إلى تحقيق "رؤية الملك نفسه" في حكومات قادمة "مفترضة" تنتجها أحزاب "مفترضة كذلك"، المطلوب أن تنبثق - تلك الأحزاب- من واقع سياسي لا يفترض ذلك كله ولا يؤمن به!

شخصيا، ومنذ الصيف الماضي سنحت لي فرصة اللقاء المغلق (تكرارا) مع الدكتور بشر الخصاونة رئيس الحكومة، وكذلك مع السيد سمير الرفاعي رئيس اللجنة الملكية للإصلاح ورئيس الوزراء الأسبق، وذلك في سياق جلسات عديدة مع شخصيات رسمية ونخبوية في الدولة استمعت فيها إلى وصفات "تفسيرية" متعددة لرؤية الملك (!) رغم أن رؤية الملك واضحة ومؤطرة في أوراقه النقاشية وفي خطاباته المعلنة أو الخاصة.

رئيس اللجنة التي أنتجت المخرجات، كان ربما الأقرب إلى رؤية الملك، وكان دمثا إلى حد تحمله غلاظة سؤالي "المستحق" عنه شخصيا، وهو سليل عائلة سياسية معروفة بالقيم المحافظة والحذرة من التغيير المفاجيء، كان جواب السيد سمير الرفاعي منطقيا حين قال لي أنه لا يفكر بمزاج شخصي، ولا برغبات سياسية، فالإصلاحات استحقاق مستعجل لدولة لا تملك ترف الوقت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

استوقفني جواب الرجل الذي كان صريحا معي في كثير من المفاصل، وفيما بعد تذكرت كلامه وأنا أستمع لغيره من أركان الدولة ونخبها "السياسية والأمنية"، بضرورة تحقيق "المشروع الإصلاحي"، طبعا كانت التفسيرات "والتبريرات" لمعوقات الإصلاح متفاوتة حسب كل من حاورتهم والتقيتهم، حتى محاربي فكرة الإصلاح التقليديين ممن درجت تسميتهم بالحرس القديم، كانت مقارباتهم الدفاعية ترتكز على "مصلحة الملك والدولة" في طرح محاذير تسارع العملية الإصلاحية، وتشتيت الرأي العام في جدليات "الصياغات اللفظية" وتأويلها دون الهجوم المباشر على فكرة إصلاح تنهي حقبة "المكتسبات المصلحية" التي تغذت عليها تلك النخب طوال عقود.

في الأردن، القصص والقضايا والأزمات متداخلة إلى حد كبير، وهذا التشابك في النهاية ينتهي عند الملك نفسه.

( هل يؤسس الملك أرضية مناسبة لمشروع دولة "مرتاحة" يحكمها ولي عهده؟)، هذا سؤال طرحته كما هو على معظم من التقيتهم، ولم يكن هذه المرة سؤالا مقلقا، ويبدو أن السؤال صار متاحا ومفتوحا ( بالهمس المسموع) بعد قضية الفتنة، وهي المفصل "متعدد التشابكات" الذي عصف بكل الدولة الأردنية لأيام، ولم تزل قضية مفتوحة مع مناكفات لا تزال تصدرها زوجة الملك الراحل "نور" أم الأمير حمزة، أخ الملك الذي أفضى اضطرابه الشخصي منذ عزله "دستوريا" عن ولاية العهد إلى توهمه بشرعية "ما" تحملها وصية شخصية من الملك الراحل، وفعليا هي وصية ليس لها قيمة دستورية في دولة يفترض أن يحكمها الدستور لا الأمزجة الشخصية، وربما من هنا تنبع أهمية تثبيت "الاستقرار الدستوري" كضرورة حيوية للدولة المنهكة ومتطلب أساسي لثبات مؤسسة العرش وراحة بال لا تهتز للملك ولمشروع الملك القادم.

هذا الدستور نفسه، الذي يخضع للتعديلات ضمن مخرجات لجنة "واسعة الأطياف" صاغتها الحكومة على شكل مشاريع قوانين مرفوعة إلى البرلمان، وصلت إلى مناقشات بالضربات القاضية واللكمات والسباب والشتائم بين "مشرعين" كانوا هم انفسهم إفراز التشوهات المرحلية السابقة، وما حدث في مجلس النواب ونقلته كل أخبار العالم بالصوت والصورة، سبب وجيه وحقيقي لمخرجات إصلاح لا بد أن يكون جادا للتخلص من تلك النخب التي لا يمكن التخلص منها وإلى الأبد بدون قوانين انتخاب جديدة تعيد للأردنيين وعيهم الجمعي بكامل لياقته الصحية، وهو ما يتطلب استعادة الدولة أولا بتعديلات تبدأ بالدستور وتنتهي بكامل التشريعات التي تنظم كافة العلاقات الرأسية والأفقية في الدولة، بما فيها صلاحيات الملك وواجباته، تلك الصلاحيات والواجبات التي تجعل من النص الدستوري الذي يحصن الملك من كل مسؤولية، نصا منطقيا يحمي رأس الدولة، لا نصا ساذجا يضعه في مواجهة الأزمات بلا مؤسسات تتحمل المسؤولية بالممارسة الحقيقية لها.

وهذا بلا شك، يتطلب حكومات تمارس ولايتها العامة بكامل صلاحياتها الدستورية، دون الاستغراق في وهم الصراعات البينية بين "مراكز القوى" التي تحاول إثبات وجودها بالضرورة، وهي تدرك أن الإصلاح الحقيقي هو نهاية وجودها في المشهد.

لا يملك الأردن ترف الوقت فعلا، خصوصا بعد تجربة "عزلة" إقليمية مريرة وصلت إلى حد استهدافه كدولة في مرحلة إدارة ترامب، والعلاقة المريحة فائقة الجودة مع واشنطن اليوم مؤقتة على مزاج وتوجه الناخب الأميركي، لا على رهانات غير محسوبة في الأردن، ولن ينقذ الأردن من أي تقلبات إقليمية او دولية إلا دولة محصنة بالدستور والمؤسسات والقانون.

مالك العثامنة - إعلامي أردني مقيم في بلجيكا / الحرة

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال