تسجيلات تُعرض على قنوات اعلامية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر برلمانيات وبرلمانيين عراقيين، من داخل البرلمان وخارجه ينتقدون أداء حكومة الكاظمي؛ ويصفونها بالفشل وانها عجزت عن تحقيق ما نسبته 17% من الورقة الاصلاحية.
تحدث النواب هؤلاء، بنبرة مفعمة بالوطنية، وكلمات تلهب المشاعر، عن حرصهم وأسفهم عما آل أليه البلد من انحدار وتفاقم أزماته الاقتصادية والخدمية والامنية. وأعابوا على الكاظمي الخلل في اناقته وهو ضيف على الرئيس التركي وكيف يقوم الأخير بتسوية ياقة قميصه، ومن منطلق تقواهم الدينية ذموا عليه قلة ورعه وحضوره المحرمات ومكروهات الحفلات الغنائية، ومنهم (النواب) من قدم مداخلة بيانية لفشل سياسة الكاظمي وحكومته، وآخرون اعتبروها " أفشل حكومة جاءت للعراق منذ قيام الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي".
في احاديثهم ونقدهم جانب من الصحة، أو كثير من الصحة، وهناك صحيح مخفي الكثير منه ايضا. النفاق سبّة يعتبرها المجتمع وأخس الفواحش من الناحية الاجتماعية، لكنها في السياسة تعتبر فضيلة لمن لا فضيلة لديه. هؤلاء النواب يرجعون جميعهم الى كتل برلمانية موالية لإيران. وجهوا سهام النقد اللاذع للكاظمي وأداء حكومته الذي لا يرضي احد من جماهير العراق، وليس هم وحدهم؛ لدوافع سياسية لا تخفى على كل متابع بعين بصيرة، لواقع السياسة في العراق، تكمن خلفها الأزمة المتفاعلة منذ فترة ليست بالقصيرة بين إيران وامريكا. وخصوصا في الآونة الاخيرة التي تشهد تصعيد خطير، واستعدادات عسكرية لخوض حرب مقبلة على الابواب، بين الجانبين. امريكا تعزز وجود قواتها الاستراتيجية في الخليج، وتصريحات وتهديدات نارية نافذة الصبر من مسؤولين امريكيين رفيعي المستوى على القصف المتوالي على الوجود الامريكي في العراق، من قبل جماعات موالية لإيران. وإيران في المقابل تقوم بتجاوز التزاماتها الواردة في الاتفاق النووي مع قوى دولية عظمى، بالتسريع في عمليات تخصيب اليورانيوم للوصول الى صناعة قنبلة نووية. وهذا ما اقلق امريكا والغرب واسرائيل، التي هددت بدورها صراحةً بعملية عسكرية، تمنع على اثرها ايران من صناعة وتطوير مثل هذا السلاح. واخذت تشحذ بنصل ماكنتها الحربية، لوضع حد لهذا التهديد. وتقوم أيران ايضا بتحريك ودفع القوى الموالية لها عسكريا من خلال تكثيف القصف الصاروخي على بعثات امريكا واماكن وجودها وعرقلة امداداتها اللوجستية، من قبل ما بات يُعرف بجماعات السلاح المنفلت. وسياسيا حث نواب الكتل الموالي لها التعرض ونقد الكاظمي ومنهج حكومته بطريقة تثير المشاعر الشعبية ضده.
ولأنهم موالون لإيران بسجيتهم السياسية، انبروا لخدمة المصالح الايرانية بتلقائية؛ فهم، لا يسعدهم موقف حكومة الكاظمي الممالأ لأمريكا، او يظهر بصورة محايد من النزاع وبالتالي لا يخدم الجبهة الايرانية.
النقد المركز والمفصل، لحكومة الكاظمي ما شهدنا مثيلا له من قبل، على مر الحكومات السابقة (والفاشلة جميعها بطبيعية الحال)، في تلبية أي مطالب وحاجات المجتمع العراقي، سواء في قضية مطالب العاطلين عن العمل وتوظيف الخريجين والخدمات التي تقف في مقدمتها، حكاية نقص خدمات الكهرباء الاسطورية والنقص في الماء الصالح للشرب والخدمات الضرورية، لحياة المواطن الأخرى، ومديات الفساد التي لا تقل اسطورية عن باقي الاساطير التي عشناها بظل جميع الحكومات المتتالية على حكم العراق، وآخرها القمع الدموي السافر بحق المتظاهرين السلميين.
لو كانوا جادين حقا في عملية نقد الحكومة، عن أداء واجبها تجاه المجتمع وحماية العراق كما يدعون، لانتقدوا الحكومة على سبيل المثل في تقصيرها، عن الكشف عن قتلة المتظاهرين ومصير المختطفين، ومحاسبة الفاسدين وغيرها من الملفات التي تعهدت الحكومة القيام بها منذ بدايات تشكيلها.
رد الكاظمي في مؤتمر صحفي، من داخل المنطقة الخضراء عليهم، وعلى تفاهة النقد من وجهة نظره، قائلا " الرئيس التركي صديق شخصي وقام بتعديل ياقتي.. هل هذا معيب وهل هذه هي مشكلة العراق أم حصول العراق على خمس مليارات دولار كانت قد منحتها تركيا في مؤتمر الكويت لإعادة الإعمار؟" وأضاف " إن هناك من يخاف من نتائج الانتخابات وانكشاف عورته فأخذ يهاجم الحكومة بحجة أن الموازنة التي تم اقرارها تستهدف الفقراء" وزعم "بأن الموازنة ليست تقشفية بل اصلاحية". لا الكاظمي يهمه مصير الفقراء، ولا منتقديه، فالطرفان كلا منهم يتبع جهة خارجية. بين ايران وامريكا، الكاظمي يعمل بصورة ظاهرة او مستترة لصالح امريكا، وبرامجها في العراق، وبرامج وخطط مؤسسات المال الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي... التي تحركها رؤوس الاموال العالمية، وفي مقدمتها امريكا.
انتفاضة اكتوبر التي اندلعت العام الماضي وما ترتب عليها من تداعيات، من اسقاط حكومة عادل عبد المهدي حامي الفاسدين والمجرمين، ومن المواجهات الدامية وقتل مئات المتظاهرين، واصابة الالاف غيرهم بمختلف الاصابات. واحتراق ورقة الاحزاب التابعة لإيران التي مارست ميليشياتها القمع والتصفيات والخطف، وحرق وتدمير مقراتها في بغداد وجميع المدن المنتفضة، تكون قد خسرت ما تبقى لها من رصيد اجتماعي وسياسي، يسعفها في العودة لخوض الانتخابات والخروج بنتائج تعيدها للسلطة وتعيد اليها اعتبارا ما. وهو ما أشار اليه الكاظمي بعبارة " الخائفون من الانتخابات".
وهو محق بهذا الهجوم المقابل بالرغم من إنهم جبهة واحدة من جناحين. لأنهم (الموالون لإيران) ايقنوا صعوبة تنظيم انتخابات في المدن التي شهدت الانتفاضة؛ ان لم تكن مستحيلة، بعد قرار المتظاهرين بمنع اي مظاهر انتخابية، للأحزاب التي تظاهروا ضدها والتي قابلتهم بالرصاص. وهو السبب الذي يدفع الميليشيات مواصلة استهداف قادة التظاهرات والبارزين منهم، لحد الآن، بالاغتيالات والعبوات، من اجل ضمان عدم عودة اي نشاط للمتظاهرين المعارضين لوجودهم، ولكي تفرغ الساحة السياسية لأنشطتهم وحملاتهم الانتخابية. وهو ايضا منشأ آخر لدواعي المعارضة المتنامية لحكومة الكاظمي، خشيتهم او (الخوف كما قال الكاظمي)، من سيطرته على المجريات الانتخابية واستعداداتها وتفويت الفرصة عليهم والخروج منها خاليّ الوفاض، وهنا يستوجب أمر المعارضة وارتفاع نبرة النقد لإزاحته والتصدي لاتساع نفوذه على حساب نفوذهم. وليس من اجل اصلاحاته الاقتصادية التي تضر بالفقراء، او تقصيرها على تنويع مصادر الدخل مثل تطوير الصناعة ودعم الزراعة، بدلا من الاعتماد على واردات النفط الاحادية للدخل القومي، والذي ثبت عدم ضمانه لخضوعه لتقلبات السوق في العرض والطلب وانخفاض اسعاره. يقول عضو اللجنة النيابية المالية " إن الورقة الاصلاحية ركزت على جانبين مهمين الجانب الاول ايقاف الهدر العام في نفقات الدولة على سبيل المثل نشتري الغاز المستورد من ايران ب3 اضعافه ثم نعطيه لشركة الكهرباء في منطقة بسمايا لتبيع الطاقة الكهربائية للدولة ب3 اضعاف، وهذا يسبب هدرا كبيرا في المال العام" . المستفيد الوحيد مما يسمى (الهدر بالمال العام) هم الفاسدون، الذين عملوا على إعاقة الصناعة؛ والاعتماد على الاستيراد لأنهم هم من يملك شركات الاستيراد، ومنافذه الخارجية وتصريفه الداخلي من جهة، ولأجل دعم اقتصاد ايران على حساب الاقتصاد العراقي. وهذا ما أكده قبل عام، حسن دانائي أمين لجنة تنمية العلاقات الاقتصادية الإيرانية مع العراق قائلا" (العراق) تبوأ المكانة الأولى في استيراد السلع الإيرانية في عام 2018 بـ11 مليار دولار، وهو مجموع قيمة السلع والطاقة المستوردة من إيران التي تطمح لزيادة قيمة الصادرات إلى العراق". تقوم الاحزاب الحاكمة منذ 17 عام، والتي تنتقد برنامج الكاظمي الاقتصادي حاليا، بتدمير الصناعة نهائيا، وحسب احصاء من وزارة الصناعة أن "90% من المشاريع الصناعية في العراق البالغة 350 ألف مشروع صناعي مسجل لدى اتحاد الصناعات العراقية، توقف عن العمل". فمن يا ترى له مصلحة بتدمير الصناعة العراقية وصناعة الغاز من اجل استيراد الغاز والسلع الايرانية، غير الاحزاب والميليشيات الموالية والتابعة لإيران.
المناوشات الكلامية بين الكاظمي ومعارضيه، لا تدخل قطعا في مصلحة جماهير العراق، لعماله وكادحيه وموظفيه وفقرائه، انما هي سجالات بين متزاحمين على السلطة، كل طرف منهم يسعى لتحقيق غاية سياسية على حساب الطرف الاخر، يتخذون الحرص والوطنية واجهة لسجالتهم الكلامية، والجماهير من عمال وموظفين وعاطلين، والعراق كبلد هو الخاسر الوحيد الذي وقع بين شرين لا خير في ثالثهما كما يقال.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال