في وصف الثورة، يفضل معظم الشعراء والأدباء تصويرها مثل فتاة جميلة مشعّة بالأمل والتفاؤل والإصرار والتحدّي، لا تكبر ولا تشيخ، بل تبقى مثل مخلوق أسطوري، يحتفظ ببهائه وحيويته.
في بداية العشرية الثانية لها تبدو الثورة العربية الجديدة في وضعٍ أصعب بكثير مما كانت عليه، حين أعلنت عن نفسها متحدّية النظام الرسمي القمعي، ومصمّمة على التغيير، إذ أنها حين ولدت، قبل عشر سنوات، كانت انتفاضًا شعبيًا بسيطًا ومفاجئًا وعفويًا وهادرًا، ليس ضد النظم المستبدة، التي شاخت فوق مقاعدها، فقط، بل وأيضًا ضد أشكال المعارضة التي تكلست وذبلت في الحدائق الخلفية للسلطة.
تحرّرت الثورة من صيغ المعارضة الديكورية الهشّة، فتمكّنت، ولو بشكل مؤقت، من التخلص من السلطة المستبدة، إذ كانت مدركة أن خصمها الواضح والصريح هو النظام الرسمي، بملحقاته من هياكل معارضة مصنوعة على عينه، وتتحرك في النطاق المرسوم لها.
وبعد أقل من عامين على نجاح الثورة في إسقاط النظام الرسمي القمعي، دارت الدائرة بسرعة وعاد النظام الرسمي ليسقط المعارضة، سواء تلك التي كانت قد تمكّنت من الوصول إلى السلطة، أو المعارضة التي قرّرت أن تحارب مع النظام القديم يدًا بيد ضد المعارضة التي حكمت، فكانت الضربة المزدوجة القاصمة.
كان من المتصوّر بعد أن كشر النظام الرسمي عن أنيابه، وأنشب مخالبه في المعارضة بجميع درجاتها التي انتقم منها وأسقطها من السلطة، أو الأخرى التي استعملها مرحليًا وأسقطها تحت قدميه، أن تدرك هذه المعارضات أن لا حل ممكنًا إلا بالتحرّر من الأوهام التي كانت سببًا في سقوطها.
وأول هذه الأوهام أن بالإمكان الانتصار على نظام رسمي بالاستعانة بنظام رسمي آخر، أو الالتحاق به، لمجرّد أن النظم مختلفة مرحليًا، وفي ذلك مقتل الثورة، إذ مع زوال الخلاف تصير الثورة منبوذة، أو بالحد الأدنى همًا ثقيلًا.
والوهم الثاني كان القبول بفكرة أن التغيير يمكن أن يأتي من الخارج. وفي ذلك قلنا عشرات المرات إن البديل يصنع في الداخل، ولا يُستورد من الخارج، لا يأتي فوق دبابة، ولا في جوفٍ كيس من الأرز، ولا يصل في حقيبة دبلوماسية، أو مرحّلاً على طائرة خاصة.
ثالث الأوهام أن الثورة يمكن أن تتغلب على النظام الرسمي بالتحالف مع خوارج، أو مطاريد هذا النظام، بحجة أن الثورة جريحة ومنهكة ومكسورة، وهنا أكرر التعجب: من قال إن من تنكسر عليها أن تسلم نفسها لأول عابر سبيل، أو قاطع طريق، أو أحمد شفيق؟
لماذا أكرر هذا الكلام الآن؟
الحاصل أن الوزير السابق، والمعارض المصري، وقبل ذلك الصديق محمد محسوب، فاجأني بعد مرور عشر سنوات على ثورةٍ كان أحد المشاركين فيها بقوة، رفقة زميله المناضل الأسير عصام سلطان، فاجأني بتغريدةٍ أقرب إلى الاعتذار عن الثورة، واليأس من إمكانية نهوضها، إذ كتب يقول "إذا لم يتواضع الجميع لتصل بلادنا لتسوية بين أطيافها وفئاتها ومؤسساتها، يتنازلون عن بعض كبريائهم لحفظ كبرياء الوطن وبعض مصالحهم لأجل مصالح شعب، فسندور بنفس الدائرة لمائة سنة أخرى، بقاء جزء مرهون بالقمع وحياة آخرين مرهون بثورة. وبينما يتمنى كل طرف هلاك الآخر، تنزف حقوق وثروات ومكانة".
لا خلاف على أن الوضع الراهن مؤلم ومخجل في آن معًا، لكن هل يكون المخرج هو التنازل عن الحلم بالثورة؟ وهل الثورة من أسباب خدش كبرياء الوطن؟ السؤال بصيغة أخرى: هل حفظ كبرياء الوطن وحقوقه وثرواته ومكانته يتطلب التنازل من الثورة، أو عن فكرة الثورة؟
طوال الوقت، يعلن عبد الفتاح السيسي عن فلسفة نظام حكمه وملخصها: تحقيق الاستقرار يتطلب قتل الثورة .. أو لكي "تحيا مصر" لا بد أن "تموت يناير" وها هو يعمل القتل في يناير على مدار سبع سنوات، والنتيجة أنه لا مكانة ولا كبرياء ولا استقرار، فقط هدم منهجي لكل أركان معنى الوطن.
وأزعم إن كل الحقائق على الأرض تثبت أن فكرة التعايش بين المقتول والقاتل هي من المستحيلات، وأن السيسي نفسه غير مستعدّ للقبول بها، حتى لو تنازلت الثورة وانحنت، وما موقفه من الثورة إلا الوجه الآخر من موقف غلاة المحتلين الصهاينة من الفلسطينيين، والذي عبّر عنه أحدهم بالقول إن تحقيق السلام يتطلب قتل العرب.
والحوار متصل وللحديث بقية.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال