Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

حكاية الفايروس الذي قضى على العالم.. نبوءة تيري غيليام في فيلم اثنا عشر قردا

نبوءة تيري غيليام في فيلم "اثنا عشر قردا" والصراع من أجل البقاء.
كثير من السينمائيين في الغرب كانوا مشغولين بالمستقبل، بفكرة انهيار الحضارة الحالية، وحلول حضارة جديدة قائمة على العلم وحده كوسيلة للبقاء أو للإبقاء على ما بقي من النوع البشري. وكثيرا ما ظهرت أفلام ترسم صورة قاتمة للمستقبل، سواء من خلال انتشار مرض يقضي على البشرية أو اختراع مدمر. وكانت هذه الأفلام تتوقف لتبحث فيما سيؤول إليه مصير الفرد.
 هاجس البقاء البشري اتخذ في السينما أشكالا مختلفة، بعضها يغرق في التشاؤم وتجسيد صورة قاتمة للمستقبل، والبعض الآخر يغرق في الخيال، لكنه لا يبتعد كثيرا عن الحاضر في تناوله للمستقبل، فيحذر الإنسان مما يمكن أن يؤول إليه مصيره إذا ما تمادى في اختراع أجهزة الدمار الشامل والعبث بوسائل التكنولوجيا الحديثة. والآن مع انتشار الوباء الناتج عن فايروس كورونا المدمر في العالم، يبدو أن السينما كانت أكثر صدقا من غيرها، في التعامل مع المستقبل، وأن الخيال الفني لم يكن بعيدا عن الواقع.
وفكرة موت الحضارة الإنسانية الحالية وظهور شكل آخر من أشكال العيش كانت ترتبط أيضا بفكرة “انتصار الشر” ولو على نحو مؤقت، ثم قدرة الإنسان على استعادة حضارته وإنقاذها من الدمار الكلي. وقد استخدم المخرج الأميركي – البريطاني تيري غيليام "سينما الخيال العلمي" في التعبير عن هواجسه الخاصة فيما يتعلق بصراع الإنسان من أجل استمرار الحياة ومحاولاته الدائمة تجنب الدمار الشامل، راسما صورة قاتمة مخيفة للمدينة المستقبلية وشكل الصراع الذي سينشغل به الإنسان بعد دمار الحضارة التي نعرفها ومولد حضارة أخرى ذات مواصفات جديدة.
تتميز أفلام تيري غيليام، مثل "برازيل" و"البارون مونكهاوزن" و"الملك الصياد"، بالبحث المعذب عن الخلاص من خلال الحب، وما ينتج عنه من تشبث بالحياة في مواجهة الموت. كما تتميز أيضا بالإغراق في الخيال والتصوير المتحرر من القوالب النمطية السائدة في السينما الأميركية والبحث عن معادلات جديدة بين الشكل والمضمون. وأفلام غيليام أفلام مركبة دراميا، لها مستوياتها المتعددة التي تنتقل من الخاص إلى العام، ومن الذاتي إلى الموضوعي، من شكل الحكاية، إلى رمزية قصص الأطفال، ومن التجسيد المادي تماما للعالم المتخيل، أي عالم غيليام الخاص، إلى التعبير الشعري عن الهواجس والخواطر والأحلام والكوابيس التي قد تبلغ في عنفها وحدّتها، درجة عالية من القسوة.
تيري غيليام هو بحق، ابن السينما المعاصرة، السينما الفنية التي يستخدمها الفنان للتعبير عن رؤيته الذاتية للعالم، من خلال حس يجمع بين السخرية والرقة في آن. وسوف يظل فيلمه "برازيل" (1984) عملا كلاسيكيا شديد المعاصرة ونموذجا للسينما الفنية الحديثة في أرقى حالاتها، سينما الذهن والقلب والعقل.
التحرر من القيود
انتزاع الحقيقة دون جدوى
لكن ما حققه غيليام في "برازيل" من نجاح فني كبير لم ينعكس إيجابيا انعكاسا مؤثرا في "شباك التذاكر". وجاءت تجربته التالية في "البارون مونكهاوزن" أكثر طموحا من الناحية الفنية وأقل نجاحا من الناحية التجارية، فهي محاولة لنقل عالم "الكرتون" المصور للأطفال إلى سينما من لحم ودم للأطفال والكبار، مكرسا مرة أخرى، وإنْ في صورة متوحشة جامحة، تحدي الإنسان للموت ورغبته في التحرر والتحليق بلا قيود فوق كل ما يواجهه من عقبات.
وفي فيلم "الملك الصياد" Fisher King تحقق لغيليام قسط من النجاح التجاري الذي لم تعرفه أفلامه السابقة لكنه لم يتمكن من استثمار هذا النجاح لصالحه، فالصورة الشائعة عنه في هوليوود أنه مخرج صعب المراس، مجنون في تطلعاته التي لا تحدها حدود، لا يقبل أن يتدخل المنتجون في عمله، يرفض بإصرار الشروط الصعبة التي يرغب مديرو الاستديوهات في هوليوود عادة في فرضها على السينمائيين المبدعين.بعد أكثر من عقد على ظهور "برازيل"، عاد غيليام إلى إخراج فيلمه "اثنا عشر قردا”(1995) Twelve Monkeys من إنتاج شركة "يونيفرسال" نفسها وبميزانية بلغت نحو 30 مليون دولار. كتب له السيناريو ديفيد وجانيت بيبولز كاتبا سيناريو "الجاري على الحافة Blade Runner" و"اللامتسامح The Unforgive" وهما فيلمان حققا نجاحا تجاريا كبيرا. ويستند السيناريو على الخط العام لفيلم فرنسي قصير (26 دقيقة) أخرجه كريس ماركر عام 1962 في إطار الحركة السينمائية التي عرفت بسينما الحقيقة، وكان يعتمد أساسا على الصور الفوتوغرافية. غير أن العلاقة بين الفيلمين ترتبط بالخط العام مع كثير من الاختلافات الجوهرية فيما بينهما.
وعندما قرأ غيليام السيناريو، قرر على الفور أنه يتسق مع عالمه، وكان ما جذبه فيه، كما يقول، فكرة الخلاص بالحب وليس ما يحتويه من ألاعيب تكنولوجية مستقبلية. والشرط الثاني الذي ربما يكون قد شجع يونيفرسال على المخاطرة بإنتاج الفيلم، موافقة غيليام على الاستعانة بنجمين من كبار نجوم السينما الأميركية هما بروس ويليس وبراد بيت، الأمر الذي لا يرحب به عادة غيليام.
وإذا كان "برازيل" رؤية كابوسية للمستقبل تدور في أجواء تنتمي إلى عالم جورج أورويل الأدبي، يمكن اعتبار "اثنا عشر قردا" فيلما عن الحاضر من خلال المستقبل والماضي القريب، من دون إحالات أدبية كثيرة.
تلاعب بالزمن
أفلام مركبة دراميا
إنه فيلم عن الميلاد الجديد والموت الذي يرتبط بما بعد الميلاد، وما بين الميلاد والموت من محاولات حثيثة للتشبث بالحياة، وتخليص العالم من الشرور، بحيث يصبح للموت معنى في نهاية المطاف.
يمزج الفيلم بين الماضي والحاضر والمستقبل، في تلاعب فريد بالزمن جريا على عادة غيليام في معظم أفلامه، كما يمزج بين الحلم والحقيقة، ويصور الحلم الذي يتحقق، والواقع الذي قد يكون حلما، مما يجعلنا طوال الوقت في حالة تساؤل عما إذا كان ما نشاهده حلما أم حقيقة أم خيالا؟
أحداث الفيلم تدور في عام 2035. ونعرف أن كارثة نتجت عن وباء نتج عن فايروس قاتل قضى على سكان كوكب الأرض في عام 1996. ولم يبق على قيد الحياة سوى مجموعة صغيرة من البشر انعزلوا تحت الأرض وخلقوا لأنفسهم عالما خاصا يقوم على العلم في أقصى درجاته مما يجعلهم قادرين على التحكم في الزمن، وقد ابتكروا الكثير من الأجهزة الطبية المتقدمة، والآلات الغريبة المعقدة، وطرق الوقاية الحديثة من العدوى. ولكن في هذا العالم أيضا مجرمون يميلون إلى العنف والشر. وبطل الفيلم (جيمس كول) هو مجرم يقضي عقوبة في السجن، لكنه سيصبح هو الباحث عن مصدر الشر.
 تيري غيليام، يحذرنا من الأخطار الكامنة في عالمنا، لكنه يجعل فيلمه يبدو كما لو كان يدور بأكمله داخل عقل رجل منوم أو نائم أو يتردد بين الحلم واليقظة، وهو ما يجعله لا يهتم بتبرير الكثير من الأحداث التي تأتي في سياق الفيلم
يطلقون سراحه ويقرر العلماء إعادته إلى الماضي، إلى عام 1996 لتحديد مصدر الفايروس الخطير الذي تسبب في القضاء على العالم في ذلك الوقت (وقت عرض الفيلم). لكنهم يرسلونه بطريق الخطأ، إلى منطقة بالتيمور عام 1990 وهناك يعتبرونه مجنونا فيودعونه مستشفى للأمراض العقلية حيث تشرف على علاجه طبيبة تدعى "كاثرين" متخصصة في علاج الحالات التي تعاني من عقدة "كساندرا" أي تلك العقدة التي تنتج عندما يمكن لأحد الأشخاص التنبؤ عن صدق بشيء سيقع في المستقبل، لكن يتم تجاهل نبوءته تماما.
يلتقي صاحبنا في المستشفى برجل سادي مجنون يدعى "جيفري غوينز" (يقوم بالدور براد بيت) يشجعه على الهرب، فيهرب بالفعل ويعود إلى المستقبل مرة أخرى مؤكدا للعلماء أنهم أرسلوه إلى الزمن الخطأ، فيرسلونه مجددا ولكن إلى عام 1917 في فرنسا وقت الحرب العالمية الأولى، فيجد نفسه في الخطوط الأمامية وسط الخنادق، وسيلته الوحيدة للاتصال بالعالم في الزمن اللاحق، رقم هاتف يكتشف أنه غير مجدٍ. لكنه يتمكن من العودة الى بالتيمور في عام 1996. ويعرف أن المسؤولين عن تسريب الفايروس القاتل جماعة تطلق على نفسها "جيش الاثني عشر قرداط وهي جماعة مناهضة لإجراء التجارب على الحيوانات. ويبدأ هو، مدفوعا برغبة خفية لا يستطيع مقاومتها، في مطاردة الطبيبة "كاثرين" ويقوم باختطافها، ويرغمها على قيادة السيارة إلى فيلادلفيا، وفيما هو يردد عليها قصته، ترفض تصديق أنه قادم من المستقبل، لكنها تدريجيا تبدأ في الاقتناع بما يرويه، خاصة بعد أن تقوم بتحليل الرصاصة التي أصابت ساقه في خنادق فرنسا في العام 1917!
في فيلادلفيا، يكتشف الاثنان أن "جيفري" هو زعيم جيش القرود الاثني عشر، وأنه ابن عالم كبير من العلماء الذين يجرون التجارب على الحيوانات، وصاحب اكتشاف الفايروس. وقد سرق أحد مساعديه، من أعضاء جماعة الـ”12 قردا”، أنابيب الفايروس القاتل وقامت الجماعة بنشرها في العالم للقضاء على البشرية.
عقل رجل منوم
التصميمات الغريبة تعكس عالم المستقبل
هذه الخطوط العامة، لا تسعى إلى تلخيص قصة فيلمنا المتشابك المعقد دراميا وبصريا، وهو تعقيد مقصود ولكن من دون أن يفقد الفيلم إيقاعه وقدرته على إثارة الدهشة وأن يشدك بعيدا عن عالمك الواقعي إلى ما يشبه الحلم أو بالأحرى، الكابوس الطويل الملتوي المتعرج الذي يقطع طرقا حافلة بالمخاطر، وكأنه يرسم صورة لمسار الإنسان منذ أن خلق على ظهر هذا الكوكب، هدفه الدائم والمستمر، أن يسعى من أجل النجاة.
تيري غيليام، يحذرنا من الأخطار الكامنة في عالمنا، لكنه يجعل فيلمه يبدو كما لو كان يدور بأكمله داخل عقل رجل منوم أو نائم أو يتردد بين الحلم واليقظة، وهو ما يجعله لا يهتم بتبرير الكثير من الأحداث التي تأتي في سياق الفيلم، مثل انتقال بطله بين الأزمنة المختلفة، والعلاقة بين الحلم الذي يتراءى له وسط مقاطع الفيلم المختلفة، وبين ما يحدث له في النهاية عندما نراه وهو في الحاضر وفي الوقت نفسه وهو صبي صغير يشهد ما يقع من نهاية مأساوية في المطار.
هناك الكثير من المشاهد البديعة المليئة بالخيال مثل مشهد انطلاق الحيوانات من حديقة حيوانات فيلادلفيا والزرافات والأسود وهي تجري في طرق فيلادلفيا السريعة، والحلم الغامض الذي يراه البطل ويتمثل في مطاردة تدور في المطار، وإطلاق رصاص، وقتل، ونظرات فزعة لطفل ذي عينين زرقاوين يفترض أنه "كول" صغير. وهناك التجسيد الأخاذ للعالم تحت الأرضي الذي شيده علماء المستقبل بآلاته الغريبة المعقدة التي تبدو أقرب إلى عصر الثورة الصناعية منها إلى عالم الأجهزة الإلكترونية المبرمجة بواسطة الكمبيوتر على طريقة "ستار ترك"، فقد أراد غيليام أن يجعل فيلمه فيلما أرضيا تماما، لذلك شيد كلا من العالم الأرضي وعالم تحت الأرض، أي العالمين المستقبلي والحالي، على كوكب الأرض ولا علاقة لهما بالفضاء.
يقوم بروس ويليس بدور الباحث عن سر الفايروس القاتل، الذي يريد إنقاذ البشرية من الشر، وهو دور عرف به في أفلام سابقة لكنه هنا يدخل عالما شديد الخصوصية ويتقمص شخصية أكثر تركيبا وتعقيدا من فكرة البطولة السطحية الأحادية، كما أنه لا يحقق الانتصار المعتاد على الشاشة بل ينتهي الفيلم نهاية تشاؤمية، مقصودة للتحذير.
الفيلم رحلة في عقل طفل شاهد بعينيه ما لم يستطع أن يفهمه، وهو يرتد عبر الزمن، يحاول أن يفهم وأن يدرك كيف يتشكل مصير الإنسان، ولكن دون أن يبدو أنه قد فهم شيئا من هذا اللغز الكبير. لذلك يبدأ الفيلم بهذا الطفل وينتهي به أيضا وهو يحدث بعينيه الواسعتين في دهشة وتساؤل. فما الذي يحدث لنا؟ لا أحد يعرف!

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال