Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

ذكريات بغدادية: انتحار رئيس وزراء.. واعتقالات جماعية للشيوعيين

لا يعرف الكثيرون أن تاريخ العراق مليئا بالأحداث المثيرة للجدل لأسباب مختلفة و كان منها الساخر و المحزن في ظاهرها و لكنها جميعا كانت تخفي حقائق حزينة لم يعرفها المواطن العادي.
أنتحار رئيس الوزراء:
كان رئيس الوزراء العراقي عبدالمحسن السعدون (1889 – 1929) شخصية فريدة من نوعها، فقد كان مثال الشجاعة و الأستقامة و الكفاءة الأدارية و كان دائم الخشية على سمعته و التمسك بالمباديء العليا و كان يتقن اللغة التركية كاتقانه للغة العربية. و لكن  و في نفس الوقت كان للرجل مشكلة كبيرة، و هي أنه لم يكن سياسيا حقيقيا فقد أمتاز بسهولة استفزازه و أفتقاره لمهارة المساومة و الحصول على أقصى ما يمكن في الظروف الصعبة و عدم أدراكه أن عالم السياسة مليئا بالألاعيب و المؤامرات و الأتهامات الكاذبة التي تخفي مطامع شخصية و أهداف مريبة و على السياسي الماهر ادراك هذه الظروف و معرفة كيفية التعامل معها و تقبل الهجمات بكل رحابة صدر. و لذلك فقد كان هدفا لهجمات كل من أراد أن يخدم مصالحه بدون و جه حق و على حساب المصلحة العامة. و قد وصل عداء خصومه له الى حد محاولة تشويه سمعته بأكاذيب شنيعة و حتى تدبير محاولة أغتيال فاشلة عندما
عبدالمحسن السعدون
فشل أحدهم في محاولة أغتياله بسكين أثناء دخوله مجلس النواب و تنازل عبدالمحسن يومها عن حقه في أقامة الدعوى على هذا الشخص. و كان من أهداف عبدالمحسن السعدون تعديل المعاهدة العراقية البريطانية، فقد كان يحاول جاهدا تغيير بنودها لمصلحة العراق و لكن على غير طائل و على عكس السياسي و الداهية الشهير نوري السعيد الذي نجح و بشكل تدريجي في الحصول على تلك التعديلات في معاهدات لاحقة. و أثناء أحدى جلسات مجلس النواب أتهمه خصومه بالخيانة و العمالة و العمل ضد مصلحة العراق فوجد عبدالمحسن هذه الأتهامات أهانة كبرى لشخصه و استشاط غضبا و انفعل بشدة الى درجة انه قدم استقالته و غادر المجلس و هو في حالة نفسية سيئة. و لزيادة الطين بلة حدثت مشكلة عائلية لعبدالمحسن في ذلك اليوم جعلته أكثر أنفعالا و لكن تدهور الأمور لم يتوقف عند هذا الحد ، فقد ذهب ألى نادي حزب التقدم الذي كان نادي النخبة السياسية آنذاك و لسبب ما أثار أحدهم موضوع نقاشات مجلس النواب المذكورة أعلاه و قام النائب معروف جياوك بمهاجمة عبدالمحسن بوقاحة غير عادية و وجه له كلمات غير لائقة و لم يستطع عبدالمحسن التحمل أكثر من هذا فخرج من النادي متوجها الى منزله و كان منزلا مستأجرا في شارع أبو نواس. و هناك كتب رسالة وجهها لأبنه تبرر ما كان ينوي عمله في الدقائق التالية و الذي سيهز المجتمع العراقي آنذاك و هو قراره بأنهاء حياته لأنه أنتحر باطلاق النار على نفسه تلك الليلة و كان ذلك في الثالث عشر من تشرين الثاني / نوفمبر عام 1929.
لم يحدث في تاريخ الشرق الأوسط الحديث أن قامت شخصية معروفة و رئيس حكومة بالأنتحار و لذلك فقد أصاب الخبر الناس كالصاعقة و نشرت الصحف في اليوم التالي تلك الرسالة الرهيبة و التي كتبت باللغة التركية و نذكر منها جملتين، ألأولى “أيكي كوزم يا ورم ما دار أستنادم علي” و تعني “يا عيني الأثنتين يا سندي علي” و المقصود هنا “علي” الذي كان أبنه الوحيد. و أما الجملة الثانية و هي الأشهر فقد كانت “أمت خدمت بكليور انكليزلر موافقت ايتم يور” و معناها “ألأمة تطلب الخدمة و الأنكليز لا يوافقون”. و قد أثار أنتحار عبدالمحسن موجة من الأستياء الشديد بين أوساط الناس و ظهرت أشاعة بأنه قتل، و لذلك وقع الوزراء على الرسالة التي تركها عبدالمحسن و أكدوا صحتها و منهم ناجي و توفيق السويدي (رؤساء الوزارة لاحقا) و عبدالعزيز القصاب (رئيس مجلس النواب و والد الجراح الشهير المرحوم خالد القصاب) و شيع عبدالمحسن بطريقة تليق بالملوك و دفن في جامع الشيخ عبدالقادر الكيلاني. و في ذكرى الأربعين  أقيم حفل تأبيني ضخم القى فيه أشهر شعراء العراق قصائد مؤثرة و منهم معروف الرصافي و محمد بهجت الأثري و جميل صدقي الزهاوي. و قد خلد التاريخ عبدالمحسن السعدون و قامت الحكومة العراقية تكريما له بنصب تمثال جميل له في الشارع الذي حمل أسمه و الذي أصبح من أهم شوارع بغداد.
و من غرائب التاريخ أن أبن عبدالمحسن السعدون الوحيد “علي” توفي أيضا منتحرا و أما أبنته فتوفيت في حادث تصادم بدراجة بخارية.
معتقل:
قامت قوى الأمن العراقية في بغداد في أواخر عام 1954 و أوائل عام 1955 بحملة اعتقالات ضد الأحزاب السرية و المعروفة بمعارضتها للدولة و أهمها الحزب الشيوعي، كما شملت الحملة من كان يعتقد انه متعاطف معهم. و تم وضع بعض المعتقلين في معتقل مركز السراي في بغداد، و شمل هؤلاء أعضاء من الحزب الشيوعي و أمتاز هؤلاء باعتبار انفسهم مثقفي العراق حتى أن الأميين منهم كانوا يسمون أنفسهم “مثقفين” فقط لكونهم أعضاء في الحزب. و قد اعتقل أيضا مجموعة من الشباب الذين لم يكونوا أعضاء في الحزب الشيوعي و لكن أشتبه بتأييدهم له لكونهم أصدقاء لأحد الأعضاء أو يتواجدون في نفس ألأماكن التي يتواجد فيها أعضائه. و استغل الشيوعيون في المعتقل هذه الفرصة لكسب أعضاء جدد للحزب و نشر مفاهيمه عن طريق بث دعايته و القاء المحاضرات المبهمة و التي لم يفهمها الأغلبية و امتازت ببعدها عن الواقع حيث ان هؤلاء الشيوعيون لم يكونوا يؤمنون بالحوار فقد كان الكلام موجها من قبلهم باتجاه مستمعيهم في اتجاه واحد و لا يسمحون لأحد بمناقشتهم، و برز بشكل خاص في هذا المجال القيادي الشيوعي المعروف حكمت كوتاني (1923 – 1998) و الذي كان أحد المعتقلين في مركز السراي. و بالنسبة لهذا الشخص كانت هذه فرصة لأثبات سعة معرفته وغزارة معلوماته و أرضاءً لشخصيته النرجسية بين هؤلاء الشباب الذين أعتبرهم مجموعة من السذج، فأخذ يقضي الوقت بالقاء المحاضرات الطويلة عن أمكان تحطيم الدولة بالقوة المسلحة و ضرورة سيطرة العمال على مقاليد الحكم و على الجميع التضحية بكل ما هو عزيز عليه في سبيل أيصال حزب الطبقة العاملة (أي الحزب الشيوعي) الى الحكم و لم يتسامح حكمت مع من يسأل أو يشك فقد كانت هذه جريمة لا تغتفر بالنسبة له وبذلك فأنه أستمتع بأقامته في المعتقل متخيلا نفسه زعيما كبيرا خاصة أن المعاملة التي تلقاها المعتقلون من أدارة المعتقل كانت جيدة جدا، فمثلا كان قد سمح لكل المعتقلين بجلب بعض المقتنيات الشخصية البسيطة مثل المناشف و البيجامات و غيرها و كان يسمح للجميع بالخروج الى ساحة صغيرة و مكشوفة للتريض يوميا لمدة ساعة و الأغتسال فقد كانت هناك أربعة حنفيات في الحائط و لكن دون ان تكون هناك أمكانية الأستحمام الكامل وكان الشباب مستمتعين بكل هذا. و في حوالي الساعة العاشرة من صباح أحد ألأيام و أثناء ساعة التريض سمع الجميع صياحا عاليا من داخل غرفة المعتقل و أعتقد الجميع أن كارثة قد حلت و ركضوا باتجاه مصدر الصراخ علهم يغيثون ضحية هذه الكارثة فأذا بهم يكتشفون بأن مصدر الضجة كان “الرفيق” الكبير حكمت كوتاني الذي كان يعنف  بأعلى صوته أحد المعتقلين و الشرر يتطاير من عينيه، و لم يكن هذا المعتقل و الذي ظهرت علامات الذهول و الخوف على وجهه سوى عامل مسكين كان يعمل في الشركة الأهلية لصناعة السيكاير و في حوالي العشرين من عمره و كان يحاول جاهدا ان يشرح لحكمت أنه اضطر الى استعمال منشفته لأنه لا يملك منشفة و لكن جميع محاولاته ذهبت أدراج الرياح لأن حكمت لم يتوقف عن الصياح. و هنا سأل أحد الشباب المعتقلين “الرفيق المناضل” حكمت عن سبب هذا الصخب و الصياح فرد عليه حكمت أن هذا العامل قد أستعمل منشفته (أي منشفة حكمت) بعد أن أغتسل مما أعتبره عملا شنيعا لا يغتفر و اعتداء صارخا عليه، فبادره الشاب “ألست انت من تقول لنا كل يوم أن علينا التضحية بكل ما هو عزيز علينا حتى أرواحنا لأيصال هؤلاء العمال ألى الحكم؟؟  و أنت الذي أصمت آذاننا بخطبك حول التضحية بالحياة من أجلهم و أنه على الرأسماليين التنازل عن كل ثرواتهم للشعب و على رأسه الطبقة العاملة، و أنت غير قادر على مشاركة هذا العامل حتى بمنشفتك؟ “، فتلعثم حكمت كوتاني و لم يستطع أن يخفي ارتباكه و هو الذي أوقع نفسه في هذا الموقف المخجل و تم ضبطه في الجرم المشهود و ظهر امام الجميع أنه لم يكن أكثر من مدع نرجسي، و لأنقاذ نفسه تلعثم مدعيا أن سبب أحتجاجه كان معايير النظافة، فرد عليه الشاب “أية نظافة؟ هل نحن في فندق خمسة نجوم؟ نحن في معتقل يا من تسمي نفسك مناضلا و تتكلم عن التضحية بكل ماهو نفيس من أجل القضية”. و خرج حكمت كوتاني من المعتقل بعد أربعة أشهر من أعتقاله مدعيا أنه تعرض للتعذيب من قبل الشرطة و كان هذا أدعاء لا يمت للحقيقة بصلة.
زيد خلدون جميل - كاتب عراقي

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال