Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

ظروف ومآلات التأسيس لانتقال ناعم للسلطة في المملكة السعودية

عرفت المملكة العربية السعودية في الآونة الأخيرة العديدة من التطورات التي تمهد لخلق ثورة هادئة داخل منظومة حكم أقوى مملكة عربية، على شاكلة ما حصل سنة 2013 في إمارة قطر، حيث تخلى الأمير حمد بن خليفة آل ثاني عن سدة الحكم لصالح ابنه تميم في نونبر من نفس السنة، وهو ما يمثل انتقالا سلس في إدارة شؤون الدولة الأخذة بنظام التوريث كمعيار لتولي سدة الحكم. ومن بين ما يفرض هاته التدابير الانتقالية أمرين أساسيين:

الأول: سعي دولة قطر إلى التفاعل مع مطالب حراك الشارع العربي (2010/2013) القاضي بتغيير الأنظمة السياسية القائمة، والسعي إلى تشبيبها من خلال تبني توجهات تتوافق مع جيل هذا الحراك الشبابي.

ثانيا: القطع مع السياسات التي تبنتها قطر خلال الفترة الممتدة بين (2008/2013)، والتي تأثرت فيها علاقة الإمارة بشكل سلبي مع العديد من الدول مثل: إيران/ روسيا/ سوريا/ ليبيا/ مصر…

وإن كنا ندعم الطرح الثاني كمبرر لتبني القيمين على إدارة الحكم في قطر، فإن الطرح الأول لا مبرر له على اعتبار أن إمارة قطر كانت من بين الدول المساهمة بشكل كبير في تمويل الحملات الإعلامية والمادية التي استهدفت تغيير بعض الأنظمة العربية، وجر أخرى في مستنقع من الدماء والرماد لا زلت تحصد تأثيراته السلبية دول مثل ليبيا وسوريا واليمن.

وإذا كانت إمارة قطر السابقة في تبني هذا المنهج (تخلي الحاكم عن الحكم لصالحه ابنه) من بين أنظمة الحكم الملكية في المنطقة العربية اعتبارا للعوامل السابق ذكرها، فماهي العوامل المساهمة في تبني هذا الاختيار القائم بالنسبة للمملكة العربية السعودية خلال هاته الفترة بالذات؟.

على غرار حليفها الجغرافي وليس السياسي قطر، دخلت المملكة العربية السعودية في صراعات على كافة الأصعدة والمستويات مع الدول الحليفة وغيرها، من أجل فرض توجهاتها السياسية تارة والإيديولوجية تارة أخرى، وهو ما أثار حفيظة العديد من القوى الوازنة إقليميا كإيران، سوريا، العراق وتركيا قبل المصالحة مع هاته الأخيرة، غير أن الصراع لم يقتصر على الحدود الإقليمية بل تعداها إلى ماهو دولي، حينما أخذ الصراع السياسي يتفاقم مع روسيا في تدبير العديد من القضايا الإقليمية كالملف الليبي والسوري واليمني.

وإن كان التجاذب السياسي بين الأطراف المتناقضة أصلا يجد ما يبرره، فهل له من تبرير مع الحلفاء خاصة حليف كالولايات المتحدة الأمريكية، التي ترجع علاقاتها المتوطدة مع المملكة السعودية منذ ما يقارب ثمانية عقود من الزمن (80 سنة)؟

لقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على مراجعة شاملة لسياستها في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا بشكل متوازي، بحيث ستعمل على الانسحاب التدريجي من الأولى مقابل وضع اليد على الثانية بنفس الكيفية، يفرض هذا النوع من التخطيط إلى إعادة النظر بشكل شمولي في المعادلة المعتمدة سابقا، سواء على مستوى الأنساق أو الحلفاء أو المصالح. وقد أثارت هذه المراجعة حفيظة المملكة العربية السعودية فعبرت عن ذلك بشكل مباشر وأمام العالم أجمع في استقبال عاهلها سلمان بن عبد العزيز للرئيس الأمريكي باراك أوباما بشكل باهت خلال انعقاد القمة الأمريكية/ الخليجية شهر ماي 2016، وهو ما لا يتوافق مع بروتوكول الاستقبال المعتمد في المملكة العربية السعودية لرؤساء الدول، خاصة في مناسبة استثنائية كقمة إستراتيجية تجمع أقوى دولة في العالم مع تكتل مجلس التعاون الخليجي.

ترجئ المملكة العربية السعودية هذا الفتور في العلاقات إلى الخذلان الذي تعرضت له من قبل أمريكا، بتفضيل الأخيرة ربط علاقاتها مع إيران كبديل استراتيجي عنها خلال المرحلة القادمة، بعد أن استنفدت السعودية طاقاتها ومواردها في تمويل حملات أمريكا وحلفائها العدوانية على العالم العربي والإسلامي، فغرقت المملكة السعودية في هذا المستنقع بعد أن دفعتها أمريكا بشكل قوي في قعره، فهل تستهدي المملكة لتقنيات السباحة في مستنقعات الدماء والرماد، لإنقاذ نفسها مما هو قادم؟ وهل يمكننا الربط بين توتر العلاقات السعودية/الأمريكية واعتماد هذا الانتقال المرن/السلس/ الناعم كآلية للقطع مع مخلفات المرحلة الماضية؟.

ليس في عالم السياسية الواسع مكان للصدف أو العفوية في القرارات المتخذة من أعلى مؤسسة في الدولة المؤسسة الملكية/ المؤسسة الرئاسية، بل إنها تتأثر بما يخاط في مكاتب صناعة القرار أو المطابخ السياسية، وما وجود عناصر فاعلة تربط بين هكذا قرارات إلا دليل مادي على أن العمل السياسي وممارسته لا تؤمن بمبدأ الاستدامة في علاقاتها، ولا تكرس في المقابل مبدأ القطيعة في تعاملاتها.

وإن كانت الإدارة الأمريكية قد اتخذت قرارها بربط علاقاتها الإستراتيجية مع إيران، والذي شكل بموجبه الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب كأرضية تأسيسية له، فإن المملكة العربية السعودية لن تجد من خيار لعودتها كفاعل أساسي في المنطقة سوى بتبني أحد التوجهات الثلاثة:

الأول: ضرورة اقتناع السعودية بالقرار الأمريكي كضرورة وحتمية لتعمل هي الأخرى إلى مراجعة شاملة لحساباتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضا ومع حلفائها وأعدائها على حد سواء، لكي تضبط بوصلة مشروعها الإقليمي، التي من شأنها أن قلب موازين القوى داخل المنطقة بشكل خاص وعلى الصعيد الدولي بشكل عام.

الثاني: كسر حاجز الخلافات مع إيران لكونها لا تتطلب كل هذا التهويل المفضي إلى القطيعة  الشاملة، وتسعى في المقابل للعمل على خلق قنوات للتواصل والتعاون المشترك بما فيه خير ومصلحة لشعوب المنطقة، من خلال التركيز على نقاط التوافق والابتعاد عن نقاط الخلاف، باعتبار الأولى صمام أمان للتغلب على الثانية.

الثالث: تغيير هرم السلطة في المملكة بما يقابله من مراجعة شاملة لسياسات المملكة السعودية من كافة القضايا السياسية، بمختلف مستوياتها الإقليمية، الجهوية والدولية، وعلى كافة الأصعدة سواء في اليمن، سوريا وإيران، بما يتوافق مع المتغيرات المعاصرة السياسية منها والاقتصادية، وبما يخدم مصالحها الإستراتيجية.

وإن كان المطبخ السياسي في المملكة قد حزم أمره تبني الخيار الأخير، دون ترجيح أحد الخيارات الأخرى التي قد تكون أقرب لمصالحها بدلا من هذا الخيار، وهو ما يدل بناء على المعطيات الواقعية المتوفرة على أن صناعة القرار لا زالت خارج أيادي القيمين عليه من بني البلد الأصيل، بل تتحكم فيه جهات أخرى نافذة هي الممسكة بمقود سدة الحكم تديره متى شاءت كيف أرادت ذلك، حتى أن التخبط الذي يساور الحاكم والعشوائية التي قد تصاحب القرارات المتخذة مرده أحيانا إلى الجهل بتبعات تلك المقررات، وهذا ما ظهر جليا حين هددت المملكة بسحب أرصدتها المالية من الولايات المتحدة الأمريكية في حالة تبني الكونغرس الأمريكي قانون يتيح لعائلات ضحايا أحداث 11 شتنبر 2001 حق مقاضاة المملكة السعودية قصد التعويض، كمحاولة لثني الكونغرس من إصدار هذا القانون، غير أن هذا التهديد لم يعطي أكله فقد تم إصدار القانون دون أن تسحب المملكة أرصدتها المالية من البنوك الأمريكية.

وما التغيير الحاصل في هيكلة الحكم بالمملكة السعودية بعد مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من تولي الملك سلمان بن عبد العزيز (يناير 2015) لسدة الحكم بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، بتقليده محمد بن نايف بن عبد العزيز كولي للعهد مكان مقرن بن عبد العزيز بعد قبول استقالة الأخير من منصبه، ثم إضافة منصب ولي ولي العهد لابنه محمد بن سلمان(أبريل 2015)، ليس سوى بداية لخلق ثورة هادئة في منظومة الحكم، تحتوي من الدلالات والإشارات الواضحة بأن المستقبل يختزن ماهو أكبر من تغيير في المناصب، وما ذاك سوى تغيير شامل لعرف التوارث الأخوي للملك بالسعودية وإعادته لأصله المرتكز على الابن البكر.

وقد شكلت الزيارة التي قام بها ولي ولي العهد السعودي إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال منتصف شهر يونيو 2016، دليلا على أن الإدارة الأمريكية قد اتخذت قرارها وزكت الأمير محمد بن سلمان لتقلد مكان والده على عرش مملكة آل سعود، بل إنه يعد دليلا آخر على أن السعودية أصبحت في مفترق الطرق مما ينسج من سياسات مستقبلية لهذا العالم، فلا هي قادرة على التخلي عن الحليف الأمريكي بعدما تخلى عنها، ولا هي قادرة على رسم توجهاتها السياسية والاقتصادية بعيدا عن وصاية العم سام، بل أنها أصبحت (الولايات المتحدة الأمريكية) تتدخل في هندسة مناصب الفاعلين وتغيير مواقعهم بما تطرحه من شروط وشكليات، وبما يتوافق مع مصالحها دون مراعاة مصالح المملكة، يسمح لها بوضع يدها لضبط السياق العام لتدبير أمور الحكم وفق إيقاع الدفع بأوراق البعض الرابحة دون الأخرى.

 ومن شأن هذه الزيارة التي قادها الأمير محمد بن سلمان إلى أمريكا أن تشكل إشارات دالة على أن تغيير المواقع أو الانتقال الناعم في هيكلة أمور المملكة قد بلغ مراحله الأخيرة، ومن الممكن أن يتم ذلك في الربع الأول من السنة المقبلة، تزامنا مع تولى الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية مباشرة مهامه في يناير المقبل.

العربي بجيجة - باحث في جامعة محمد الخامس - الرباط/ راي اليوم


0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال