Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

بين الهوية والانتماء

 لا شك؛ أن البحث بموضوع الهوية والانتماء يعتبر من الامور المعقدة، حيث يجري تناول هذا الموضوع على مستويات متعددة، منها الفلسفية والاجتماعية والنفسية والقانونية وغيرها من طرق البحث المتعارف عليها علمياً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يذهب أصحاب الرؤية الفلسفية على أن الهوية تدل على ماهية الشيء، فجوهر الهوية هو تطابق الإنسان مع ذاته، حيث أن عدم التطابق سيؤدي الى الشعور بالاغتراب. والهوية تكون على مستويين اولاً: الفرد؛ وهنا ترتبط الهوية بالحرية؛ لأن الذات لا تعي نفسها بدون حرية، وتصبح الحرية ناتجة عن الهوية لأنها تعبر عنها، وثانياً: على مستوى الجماعة أو المجتمع.

أما على صعيد علم النفس الاجتماعي، فيذهب الباحثون على أن الهوية هي إدراك الفاعل الاجتماعي أو السياسي لذاته، ولما يميزه عن الآخرين، أي أن الهوية أداة تمييز بين "الأنا" و "الغير" على المستويين الفردي والجماعي. وقد يكون تحليل مذهب ما يعرف بالظاهريات “الفينومولوجي” مفيداً في فهم الهوية والانتماء، لأنه يعتمد المميزات الشعورية تحليلاً واقعياً مباشراً دون الاعتماد على النظريات والدراسات السابقة، أي أنه يعتمد على التحليل المباشر دون العودة الى " قال فلان ويقول علان" فالمرجع هو الشيء نفسه وليس ما قيل عنه.

اقتداءً بالمذهب الفينومولوجي يمكن أن نقول؛ إن الانتماء هو إحساس فطري ناتج عن ولادتنا في زمان ومكان معينين، وفي اسرة ما، على لغة ما،حيث ينقل الوالدان الصفات الوراثية لطفلهما، فيصبح هذا الطفل منتمياً لأبوين وأسرة في زمان ومكان ما.. دون ارادته، فهو لا يختار مكان وزمان وباقي تفاصيل الولادة. فالانتماء قسري لا خيار فيه للإنسان، فهو لا يستطيع تغيير ابويه واسرته وعائلته وعشيرته حتى لو انتقل لأي مكان على وجه البسيطة، فهذه الانتماءات سترافقه كظله.

بالمقابل؛ الهوية تُصنع وتتطور مع الزمن، من خلال فهم الإنسان وتفاعله مع المستويات المختلفة للانتماء، فاذا استعرنا من الفكر الماركسي مفهوم البنية التحتية والبنية الفوقية، نستطيع أن نقول إن الهوية هي البنية الفوقية التي تعبر عن مستويات الانتماءات المتعددة التي تشكل البنية التحتية. ولذلك لا يوجد هوية واحدة موحدة تعبر عن الجماعة بدقة، لإن الأفراد يولون الانتماءات المختلفة أهميات مختلفة، ولذلك تتشكل هويات مختلفة، ولكن يوجد هوية جامعة بخطوطها العريضة تقبل بالاختلافات ضمن الهوية الواحدة. فاذا اخذنا الهوية العربية، على سبيل المثال لا الحصر، يمكن ملاحظة الهويات المختلفة الني تتضمنها وفقاً للدين والمذهب والمنطقة، ولكن يجمعها إطار عام ترعاه اللغة والجغرافيا والتاريخ.

يخلط الكثيرون بين مفهومي الهوية والانتماء، وهناك من يعتبر أنهما يدللان على نفس المعنى، وهذا بعيد عن الصحة. فالخلط بين هذين المفهومين كالخلط بين مفهومي الجسد والروح، فالانتماء يمثل الجسد، والهوية تمثل الروح، التي تبعث الحياة في هذا الجسد، كذلك الهوية تبعث الروح في الانتماء. فالهوية كما ذكرنا سابقاً تقوم على إدراك الإنسان لذاته؛ أي لطريقة ادراكه وفهمه لمستويات الانتماء المختلفة التي ينتمي اليها هذا الإنسان، والتي تتشكل من حلقات تبدأ من الانتماء الأسري وصولاً للانتماء الإنساني. وعادة يتقوقع الإنسان في الحلقة التي يشعر فيها بالأمان. فهناك من يشعر بالأمان في الحلقة الطائفية، وهناك من يشعر بالأمان في الحلقة الوطنية أو القومية، وهناك من يصل الى الحلقة الإنسانية، وبالمقابل هناك من لا يتخطى الانتماء العائلي.

إذا دققنا النظر؛ نستطيع أن نلحظ أن هوية الفرد متعلقة بشكل وثيق بعاملين؛ الأول، العامل الذاتي، المتمثل بمستوى وعي الفرد لذاته، والثاني العامل الموضوعي، والمتمثل بالظروف المحيطة بالفرد والبيئة التي يعيش فيها، فمثلاً في بيئة التهديد يعود الإنسان للحلقة الأقوى التي يشعر فيها بالأمان. والمثال الواضح على ذلك هو ما حدث في سوريا، فبعد تفكك الهوية السورية نتيجة للحرب، عاد السوريون ليتقوقعوا في الأطر الطائفية، لأنه الإطار الأكثر أماناً للأفراد في المرحلة الحالية، ولن يخرجوا من هذه الأطر ويعودوا الى الساحة الوطنية الا من خلال بناء الدولة العلمانية التي تحترم إنسانية الإنسان، وتفصل الدين عن الدولة، حينها يستطيع أن يشعر المواطن السوري بالأمان، فيخرج من خندق الانتماء الطائفي الى ساحة الانتماء الوطني السوري.

ان أصعب حالات فقدان الهوية تتجلى عند الأفراد أو المجموعات التي تعيش تحت احتلال أو هيمنة ثقافة أخرى، عندها يصبح الضياع مضاعفاً، فلا يكتفي الفرد او المجموعة بالانكفاء الى الانتماءات الضيقة، بل يتعدى ذلك الى الانصياع للثقافة السائدة والتماهي معها لمرحلة يصبح فيها الشخص كما يقال " كاثوليكياً أكثر من البابا" فيتبنى هؤلاء مقولات السيد ويدافعون عنها لدرجة التماهي التام معها. ونراها أيضاً على مستوى المجموعات من خلال التماهي الجمعي مع ما يعتبروه مُرضٍ للسيد، لا شك أن هذه الحالة هي محاولة للتعويض عن فقدان الهوية التام، والشعور بالخواء، مما يتطلب ملء الفراغ الناتج عن ضياع الهوية بثقافة السيد.

إن أهم أسباب فقدان الهوية؛ هو غياب الذاكرة الجمعية عند الأفراد والجماعات، الأمر الذي يفقدهم القدرة على إدراك الذات وفهم ما يميزهم عن الآخرين، فيبدؤون بالبحث عما يعوضهم في ثقافة الآخرين للتعامل مع هذا الفراغ الذي لا يمكن للإنسان أن يتعايش معه. وبغض النظر عن قيمة هذه الذاكرة، ومدى تفاخر الأفراد والجماعات بالانتماء اليها أو ازدرائها، تبقى ذات أهمية في صياغة الهوية الجمعية للأفراد والجماعات، فعدم رضى الأفراد عن هذه الذاكرة لا يشكل على الإطلاق مبرراً لهم للتخلي عن هويتهم، وانما يجب أن يدفعهم للمساهمة في تصحيح مسار هذه الذاكرة، وإدخال مضامين ذات قيمة لها من خلال صناعة الحاضر، الذي سيدخل في اليوم التالي في إطار الذاكرة الجمعية، لأنه سيصبح من الماضي.

إن نقد الذاكرة الجمعية للمجتمعات أمر بغاية الأهمية من أجل صناعة واقع جديد أفضل، ولكن النقد يجب أن يكون أصيلاً؛ أي من منطلق اصلاح الواقع وتغييره الى واقع أفضل، وليس بهدف استمالة سخط الأفراد والجماعات الذين ينتمون لهذه الذاكرة دون تقديم البديل لهم. تاريخ الشعوب بشكل عام مليء بالمثالب والمناقب، وكل ناقد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هذه المتلازمة بعين الاعتبار من أجل صياغة نقد بناء قادر على تحريك عجلة التطور الى الأمام، اما الناقد بعين واحدة سواء رأى فقط نقاط القوة في هذه الذاكرة أو رأى فقط نقاط الضعف فيها، يتحول الى مهلل لهذه الذاكرة أو الى ساخط عليها، وهذا لا يفيد المجتمعات بشيء، أما الناقد الحقيقي الأصيل عليه أن يرى بكلتا العينين، ليكون موضوعياً وليصبح نقده مؤثراً ويؤخذ به.

لا يختلف عاقلان على أن الدين له التأثير الأكبر على الذاكرة الجمعية، والطريقة التي يتعامل بها أفراد مجتمع ما مع الدين وطريقة فهمهم له، يعتبران أمران مفصليان في بناء الهوية، فالإسلام، وطريقة تعامل المسلمين معه، وفهمهم له، شكّل مع الزمن في عملية تراكمية جوهر الذاكرة الجمعية العربية، كون المسلمين يشكلون الغالبية العظمى للمكون العربي، طبعا هذا لا ينتقص من تأثير المجموعات الدينية الأخرى في هذا الواقع؛ فقد كان للمسيحيين العرب وباقي المذاهب الإسلامية صولات وجولات، ان كان على الصعيد الفكري أو الثوري، ولكن الغالبية السنية حددت معالم الهوية العربية الإسلامية من خلال فهمها وممارستها الدينية على مدار عصور طويلة.

لقد كان لعلماء المسلمين أمثال البخاري ومسلم وابن تيمية وغيرهم ممن قدموا اجتهادات ورسموا نهجاً في الإسلام استمر تأثيره أيضاً في العصر الحديث من خلال علماء أمثال يوسف القرضاوي وتلامذته، حيث لعب هؤلاء العلماء وغيرهم دوراً محورياً في صناعة هوية إسلامية ما زال الكثيرون متمسكين بها، والتي اثبتت الأحداث وبرهن الزمن على عدم قدرتها على التعامل مع الواقع العصري الجديد والمتطور، وباتت عبئاً على اصحابها، وعلى الواقع العربي أجمع، فقد شكلت هذه الهوية الأسس النظرية لإسلام القاعدة وداعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام وغيرها من الفصائل التي عادت بالمآسي على العالم العربي الإسلامي. وبالمقابل كفروا العلماء الذين قدموا للإنسانية فكراً وعلماً يُعتّد به أمثال الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد وعلماء أمثال ابن الهيثم وجابر ابن حيان والخوارزمي وغيرهم ممن ساهموا في نهضة أوروبا والغرب بشكل عام، وكُفّروا في العالم الإسلامي.

لقد بات التصدي لفكر هذه الفصائل واجباً مقدساً على كل الغيورين على الهوية العربية الإسلامية، ومدخلاً لا بد منه لتجديد الهوية وإصلاح الذاكرة الجمعية، من خلال رفد هذه الذاكرة بواقع جديد قادر على تغيير الصورة النمطية التي صُبغ بها العربي في هذه المرحلة. ان اظهار مثالب هؤلاء العلماء، واستنكار تكفيرات ابن تيمية والقرضاوي وتلامذتهم المتكررة، لكل من يعتبروه خارجاً عن فهمهم للإسلام، والذي يسمونه الإسلام الحق، غير كافية لتغيير الواقع، وانما التصدي الفكري والنقد البناء والموضوعي لطريقة فهم هؤلاء للإسلام، هو القادر على تغيير الواقع بشكل تدريجي.

وفي هذا السياق لا بد لنا من أن نذكر اسهامات ابن غزة الدكتور عدنان إبراهيم في هذا المضمار، ومحاولاته الدؤوبة إعادة وضع الإسلام على السكة الصحيحة، بما يتناسب مع المفاهيم الحديثة، أما الدكتور محمد شحرور، والذي يعتبر وبحق، رائد التنوير الإسلامي في العصر الحديث، فقد نقض الإسلام التقليدي بكليته من خلال كتبه وأهمها " الكتاب والقرآن" ووضع أسس نظرية حديثة للتعامل مع النصوص الدينية، وقدم تفسيرات جديدة بما يتناسب مع روح العصر، وحول الإسلام لدين قادر على التعامل مع الواقع العصري، المتغير، واكثر ما يثلج الصدر؛ هو الازدياد المضطرد في اتباع الدكتور الشحرور الذي رحل عن هذه الدنيا في عام 2019.

اذاً الحل ليس بلعن الواقع وإظهار مثالبه فقط، وانما في طرح البديل كما فعل الدكتور محمد شحرور، والدكتور عدنان إبراهيم، أي يجب أن نُشعل شمعة بدلاً من أن نلعن الظلام، لأننا لا نستطيع أن نغير انتماءنا، فالانتماء قسري كما ذكرنا سابقاً، لا نختاره لأنفسنا بل نولد عليه، أما الهوية فيمكن تطويرها وتحسينها، فنحن عرب بالانتماء، والثقافة الإسلامية تشكل هويتنا، والجزء الأكبر من هندسة وعينا، على اختلاف انتماءاتنا الدينية أو المذهبية، شئنا أم أبينا، ولهذا علينا خلق واقع جديد يعدّل الصورة النمطية التي أُلصقت بنا كعرب، وبناء هوية حديثة يعتز افرادها بالانتماء اليها، وليس الهروب الى تبني هويات أخرى غريبة عنا، ستُدخلنا حتماً مع الزمن في غربة عن واقعنا، وتشوه الأجيال الصاعدة، فنصبح بلا هوية، لأننا سنهمل هويتنا الحقيقية وحتماً لن نتقن اداء وتقمص هوية الغرباء لأنها دخيلة علينا.


0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال