Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

كتاب محمد أركون وحلم الحداثة للكاتبة ماجدة حمود

 

اعتبر أركون أن الأسطورة والقصص والمعتقدات المتوارثة عن الأجداد تشكّل مكوّناً أساسياً من مكوّنات الوعي البشري وتسهم في تكوين وجدان الإنسان.

"هناك علاقة جدلية بين رهانات المعنى وإرادات القوة، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضاً، فكلما ازداد المعنى وقوي اتسعت القوة، والعكس صحيح أيضاً من دون أن يعني هذا أن هناك مطابقة كاملة بينهما. فالمعنى بريء والقوة تميل للتسلط والانتهازية وكل معنى قابل لأن يستخدم من قبل القوة من أجل السيطرة"[i].

هكذا تحدث محمد أركون، وهو أحد الذين حاولوا استجلاب المعنى بل بناءه في التراث الفكري العربي الديني خصوصاً والفلسفي عموماً. وكغيره من المفكرين التنويريين سكنهم القلق الحداثي وقدموا أعمارهم وعقولهم في البحث عن إجابات للتساؤلات الأكثر إلحاحاً وحضوراً في الذهنية العربية ماضياً وحاضراً من قبيل: 

لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ من يصنع الحداثة؟ وكيف نصل إليها؟

لماذا نجحت الحداثة في الغرب ولماذا فشلت محاولات التحديث لدينا إلى درجة شوّهت وفتتت الوظائف الروحية الكونية والقيم الأكثر رسوخاً في الإسلام؟ كما لو أننا خسرنا الإسلام والحداثة في آنٍ معاً.

لعل كتاباً بعنوان "محمد أركون وحلم الحداثة" للكاتبة ماجدة حمود يقدم زاداً معرفياً للقارئ.

الكتاب مقسم إلى فصلين بعدة مباحث جاء الفصل الأول بعنوان "الحداثة في الفكر العربي" والذي تبحث فيه الكاتبة دلالة مفهوم الحداثة وارتباطها بالسياق التاريخي حيث يؤرخ لبداية القلق الحداثي في المشرق العربي مع حملة نابليون على مصر أي قبل أكثر من مئتي عام.

وهنا تفيد الكاتبة أن الغرب الذي بدأ بإرسال بعثاته التبشيرية من أجل تعليم أبناء الشرق كان مشروعه مضمراً غايات أخرى استعمارية فبدأ يميز فئة عن أخرى بمشروعه التنويري وفي المقابل الفئة التي اطلعت على لغته وثقافته راودها هاجس الحداثة. أما الفئات الأخرى فقد نظرت بعين الشك والريبة وبقيت بعيدة عن منابع فكره وإبداعه.

تسوق الكاتبة هذا الشرح لتؤكد ارتباط الحداثة بالسياق التاريخي والتحديات التاريخية.

ما يهمنا هو متن الكتاب وغايته في الفصل الثاني الذي يتناول أهم مرتكزات ومعالم فكر محمد أركون.

فقد تناول أركون مصطلحات عدة كمفاهيم مؤسسة للحداثة كما يصف الكتاب وأهمها:

الأنسنة: Humanisme

"احترام الإنسان بحد ذاته ولذاته فهو مركز الكون ومحور الكون"

أما الإنسانية فيقصد بها ازدهار النزعة العقلانية وتراجع الظلامية والتعصب. وتتابع الكاتبة أن أركون يعرّف الإنسانية أنها تشمل جميع أفراد الجنس البشري بغض النظر عن أصولهم الجغرافية أو الدينية أو المذهبية أو العرقية أو اللغوية. وقد عني أركون بتحديد عوامل تسهم في انتصار النزعة الإنسانية أو نجاحها وديمومتها. فهي لا تعتمد على مدى الغنى الاقتصادي والتقدم التكنولوجي للمجتمع بقدر ما تعتمد أيضاً على مدى مقدرة ما تدعوه الكاتبة (حقوق الروح)، التي أسهمت الثورات الكبرى الدينية في تقدمها وازدهارها، لكنها لم تستطع أن تضع حداً للصراعات والتناقضات الكائنة بين إرادة القوة والبحث عن المعنى. 

درس أركون الأدبيات الفلسفية في التراث (مسكويه والتوحيدي في القرن الرابع الهجري) ولاحظ وجود نزعة فكرية متمركزة حول الإنسان في التراث العربي الإسلامي، دعاه "الإنسية العربية" وتهتم بالإنسان وليس فقط بالله، حيث يكرر مقولة أبي حيان التوحيدي "الإنسان أشكل عليه الإنسان".

التاريخية: Historique

دعا محمد أركون إلى المنهج التاريخي في تفسير التاريخ وقد ظهرت التاريخية للمرة الأولى عام 1872، حيث بيّن أركون أن "جميع الأنظمة العقائدية أو الدينية خاضعة للتاريخية وليست فوق التاريخ...". فالتاريخية كما تصف الكاتبة "لا تنغلق على زمن مضى، بل تنفتح على سياق الزمان والمكان".

والحداثة في رأي أركون لن تقوم إلا بفهم التاريخية.

وهنا تجدر الإشارة إلى الفرق بين التاريخية والتاريخانية في فكر أركون والذي لم تعرّج عليه الكاتبة، فقد انتقد أركون اتجاه التاريخانية، وهي التي تؤمن أن التاريخ جسد واحد، تسري فيه روح واحدة. هذا الاتجاه يعتقد أن للتاريخ قوانين، تنطبق على كل مرحلة من مراحله، قد تكون نسبية وقد تكون صارمة.

أما التاريخية فتحاول تفهم إنتاج الحقيقة ولذلك هي تعتني دائماً بالتساؤل.[ii]

العلمانية:

(وهي أكثر من التفريق البسيط بين أمور الدنيا والدين .....فيلفت نظرنا إلى أن ثمة أشواقاً روحية وقلقاً وجودياً يعصف بأعماق الإنسان فيحس بمدى حاجته إلى الله، فيحاول البحث عن ملاذ آمن يجد فيه الخلاص..).

وتقف الكاتبة على مفهومين للعلمانية عند محمد أركون: الأول اختزالي ينغلق على دلالة واحدة سلبية والثاني مفهوم منفتح وإيجابي. وقد بيّن أنه يرفض المفهوم الأول الذي شاع في القرن التاسع عشر والقرن العشرين لكونه يختزل البعد الديني والروحي، في حين يرى أن المفهوم الثاني لا يتنافى مع الإسلام إذ يجمع الروح العلمية إلى جانب الروح الإيمانية.

الأسطورة(Myth):

اعتبر أركون أن الأسطورة والقصص والمعتقدات المتوارثة عن الأجداد تشكّل مكوّناً أساسياً من مكوّنات الوعي البشري وتسهم في تكوين وجدان الإنسان، إذ تؤثر في أفكاره وأحلامه وأفكاره وذاكرته ولذلك (أصبحت تعني نمطاً خصوصياً من أنماط التعبير عن الواقع ونوعاً من التحقق أو التصور الروحي المشترك لدى جميع أشكال الوجود البشري العتيدة والتقليدية)، لكونها جزءاً من مكوّنات لا واعية تسهم في بناء الشخصية.

وقد اهتم أركون بالأسطورة كتأكيد على إقامة توازن بين هيمنة التكنولوجيا والعلم وبين الطبيعة والبراءة والأسطورة. كذلك تزود الإنسان بطاقة روحية، تحفزه على مقاومة ضعفه، وذلك لكونها تحمل قيماً لا تموت، تمس صلب الوجود.

ما الذي يعرقل مشروع الحداثة في البلدان العربية؟

1-  إقصاء الفلسفة

الفلسفة أو (الوعي الفلسفي) هو الوسيلة الأكثر فعالية لتجاوز الانقسامات السياسية والدينية.

2-   التخلف السياسي والتقني.

3-   فصل الحداثة المادية عن الفكرية والروحية.

الحداثة ومواجهة الذات عند أركون

أحد أهم أسباب عجزنا عن تحقيق الحداثة في رأي أركون هو غياب الفكر النقدي وعدم احترامه.

كما دعا إلى قراءة التراث قراءة جديدة وربط تحقق الحداثة بإعادة تفكيك هذا التراث، لأنه لا يزال ممتداً ومتجذراً في الوجدان العربي (اللاواعي). فالخطاب القرآني " يستقطب كل الدلالات...".

وليس غريباً في رأيه أن تتطور الأنتروبولوجيا القرآنية في اتجاهين مختلفين إما تحرير الإنسان بفضل نزوعه نحو الله، وإما استغلال الدين وطاعة الله ورسوله لمصلحة السلطات والأنظمة السياسية، حتى لو كانت جائرة.

الحداثة ومواجهة الآخر عند أركون

يرى أركون أنه من الخطأ فصل الشرق عن الغرب، لأن الحضارة الإنسانية تقوم على الأخذ والعطاء وبذلك تشكل الأنا والآخر كلاً واحداً. فلا يمكننا معرفة الأنا من دون معرفة الآخر. فمثلاً نجد الغرب قد أخذ النزعة العقلانية التي أنجبها الفكر الإسلامي متمثلاً بإبن رشد وغيره 

الذي بدوره استفاد من الفكر الإغريقي. وهذا الفكر استفاد بدوره من الحضارات الشرقية (البابلية والفرعونية وغيرهما).

رغم انفتاح أركون وإقباله على الفكر الغربي وإعجابه به، فهو لا يألُ جهداً أو يدخر شجاعةً في انتقاد بعض الثوابت في العقل الغربي. فقد انتقد العقل الديكارتي لأنه يرسخ سيادة الذات ومركزيتها، كما رفض مقولة ميشيل فوكو، "موت الإنسان". إذ يتناسى هذا الإعلان أن ثمة نوازع أصيلة في النفس البشرية، تشكل جانبها الروحي، ولا يمكن أن تعيش من دونها، والله كمرجعية مستمرة وكدلالة على المطلق فهو حي لا يموت.

التوتر الروحي الداخلي والحنين للأبدية يشكلان بعداً أساسياً من أبعاد الإنسان. فالإنسان لا يعيش فقط بالماديات وهو بحاجة إلى أن يتجاوز شرطه المادي من وقت لآخر كي يعانق شيئاً آخر أكثر دواماً واتساعاً.

في نقده للاستشراق، تقول الكاتبة إن أركون يأخذ على المنهجية الاستشراقية وضعيتها المسرفة وماديتها، التي ترفض أن تأخذ بعين الاعتبار العامل النفسي أو الإيماني، لهذا نجده يوضح أن دراسات المستشرقين بإمكانها أن تأتي بنتائج دقيقة، لتمتعها بحرية البحث. فهي بمنأى عن تهمة الإلحاد. لكنها، غالباً، لن تستطيع الاستفادة من تلك الحرية، لعدم نزاهتها أو تخلصها من أفكار مسبقة تؤسسها نظرة عنصرية استعلائية.

وعوداً على بدء، نجد أنه على الرغم من تطرق الكتاب لأهم أفكار محمد أركون، إلا أنها جاءت كبانوراما مبسطة فلم تتجاوز مؤلفة الكتاب التقديم العام لمفاهيم وطروحات أركون، كما أن أسلوبها جاء إنشائياً والكثير من عباراتها المستخدمة كانت مستهلكة، إضافةً إلى تكرارها في مواضع عديدة من الكتاب.

وهنا يطفو السؤال: لمن تكتب الكاتبة ولماذا؟

فإذا كانت تكتب للنخبة المثقفة، أعتقد أن النص مبسط ولا يروي ظمأ مريدي المعرفة العميقة أو من يبحثون في مشروع محمد أركون الفكري الواسع والمكثف جداً. وإذا كانت تكتب لتعريف الأجيال الشابة بهذه الشخصية المهمة في الفكر العربي الحديث، فأحسب أنه ليس لشباب الألفية الثالثة، فهؤلاء وفي ظل الانشغالات العلمية والتكنولوجية التي فرضها العصر وفي ظل التشتت والضياع وفقدان الانتماء بسبب الواقع المأزوم في بلادنا فهم يحتاجون لغة جديدة مختلفة وجهداً أوفى من الكتَّاب والباحثين لاستقطابهم لهذا النوع من المعارف، الذي لا شك أنه يدعم تحقق الهوية لديهم. وهذه اللغة المتجددة والمكثفة هو ما يسِم نتاج المفكر محمد أركون.

وأخيراً، نجد أن أركون في اشتغاله على فكرة الأنسنة في التراث العربي والإسلامي يتفق مع عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين في "أن الحداثة لا تقوم على مبدأ وحيد ولا على مجرد تحطيم العقبات التي تقف في وجه سيادة العقل، إنما هي نتيجة للحوار بين العقل والذات، بدون العقل تنغلق الذات في هوس هويتها، وبدون الذات يصير العقل أداةً للقوة"[iii].

الهوامش 

[i] محمد أركون، كتاب "الإسلام، أوروبا، الغرب"  صفحة20

[ii] مصطفى الحسن، كتاب" الدين والنص والحقيقة، قراءة تحليلية في فكر محمد أركون" صفحة 149

[iii] آلان تورين، كتاب "نقد الحداثة" صفحة 25

علا شفيق شعبان - كاتبة من سوريا - الميادين نت

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال