بصفتي ابنة مدينة أنطاكية، كنتُ أرغب دائماً في الكتابة عن "جوقة حضارات أنطاكية". لم أفكّر أبداً أنّني سأكتب يوماً عن وفاة سبعة أشخاص من أعضاء الجوقة، تماماً مثلما لم يخطر ببالي أنّني سأكتب عن المدينة التي وُلدتُ فيها وتعلّمتُ الحياة في شوارعها، بعد أن دُمرِّت في دقائق. في شوارعنا، كان دائماً ما يجري التحدُّث بلغات عدّة في الوقت نفسه. في شوارع أنطاكية الضيّقة الطويلة، كان هناك أصحاب الدكاكين الصغيرة، وكان البقّال وبائع حليب والخبّاز يتحدّثون العربية والتركية والأرمنية.
استمعتُ لأوّل مرّة إلى "جوقة حضارات أنطاكية" في المبنى التاريخي لمجلس أنطاكية، والذي جرى بناؤه عام 1927 من قبل فرنسا كقاعة سينما، وجرى استخدامه لمدّة عام واحد كبرلمان عندما استقلَّت أنطاكية عام 1938، قبل أن يجري ضمُّها إلى تركيا في العام التالي. بينما كنتُ أستمع إلى هذه الجوقة للمرّة الأُولى، كنتُ وكأنّني أتجوّل في جميع شوارع أنطاكية وقراها وجبالها. كنتُ مع الجدّة سمرة أجمع البقدونس في سامانداغ، ومع العمّ محمّد وهو يغنّي أغاني الحصاد فوق شجرة الزيتون في ألتي هي ألتين أوزو، والعم بارتش وهو يدندن أغنية أرمنية من طفولته عن الهجرة وهو يسقي شجرة الورد في قرية وقفلي، وكنتُ مع الجدّ صبحي وهو يغنّي المواويل حتى الصباح على رأس قِدرٍ كبير في حربية...
بسماعها أشعر وكأنّني أتجوّل في شوارع أنطاكية وقراها
كأنّهم كانوا على المسرح جميعاً يغنّون أغانيهم الخاصّة. وكانت هذه الجوقة صوتنا وبكاءنا وقهقهاتنا وصراعنا الداخلي. ولسوء الحظ، تسبّب هذا الزلزال، الذي أخذ منا كلَّ شيء، في رحيل سبعة أشخاص من هذه الجوقة. الآن، أوّلاً وقبل كلّ شيء، أودّ أن أُخبركم عن "جوقة حضارات أنطاكية". تأسّست هذه الجوقة عام 2007 من أشخاص من الأديان السماوية الثلاثة، بهدف التعريف بتاريخ أنطاكية، وخلق جسر تواصُل بين الحضارات. وجرى ترشيح الجوقة، التي أصبحت جمعية في عام 2008، لجائزة نوبل للسلام عام 2012.
تتكوّن الجوقة من 120 عضواً، بقيادة يلماز أوزفرات، وتضمّ ستّ طوائف من العلويّين والسنّة والأرمن والأرثوذكس والكاثوليك واليهود، وتتبنّى فلسفة الشاعر والمتصوّف التركي يونس أمرة "أَحِبّ المخلوقَ بسبب الخالق". تعمل الجوقة مرآة تعكس حضارة هذه المنطقة بأناشيد وأغانٍ شعبية وأغانٍ من ثقافات مختلفة. وبشغف كبير، تكمل جوقة حضارات أنطاكية طريقها منذ تأسيسها، من خلال الاستفادة المثلى من الموسيقى، التي لها قوّة ودور كبيرين في مواجهة التحيّزات العرقية في هذه المنطقة متعدّدة الأديان والأعراق.
ضمَّت الجوقة قساوسة وراهبات وأئمّة ومعلّمين وطلّاباً وأصحاب مهن مختلفة. على سبيل المثال، تعمل مَلتم بينجول ألتوناي، وهي ممرّضة بمستشفى أنطاكية، كعازفة فردية في الجوقة، وقد غنَّت أغاني دينية وغير دينية بأربع عشرة لغة، من بينها الفرنسية والألمانية والإنكليزية والعربية والكردية والأذرية والشركسية.
كما قدَّمت الجوقة حفلات في العديد من البلدان، مثل الولايات المتّحدة وفرنسا وإنكلترا وأذربيجان وكندا وبرلين. وأثناء التحضير لحفلها الجديد، ولسوء الحظ، وقع الزلزال الكبير في السادس من فبراير/ شباط الماضي في مدينة كهرمان مرعش، وفقد آلاف الأشخاص حياتهم في أنطاكية، مثلما حدث في المدن الأُخرى التي تأثّرت بالزلزال.
كلُّ من يتابع فعاليات جوقة حضارات أنطاكية، يعرف أنها قدَّمت العديد من الحفلات الموسيقية لنشر السلام والتسامح في مناطق الحروب والأوبئة، إلّا أنّ الجوقة، هذه المرّة، تعرَّضت لكارثة الزلزال وخسرت سبعة من فنّاني الكورال الذين فقدوا أرواحهم تحت الأنقاض، بينما جرى انتشال يلماز أوزفرات، قائد الجوقة، من تحت الأنقاض بعد ثماني ساعات.
كانت الجوقة صوتنا وبكاءنا وقهقهاتنا وصراعنا الداخلي
يقول أوزفرات عن هذه الساعات الصعبة: "عندما خرجتُ، كانت السماء تمطر بغزارة. وتحت هذا المطر، كان الجميع يحاول جذبي إلى مكان ما. أردتُ أن أشعر بالمطر وهو يلامس بشرتي، لأنّك في هذه اللحظة تشعر أنّك على قيد الحياة. ولكن عندما تستدير وتنظر يميناً ويساراً، سترى مناظر لا تُصدَّق. انهارت كل البنايات، وكانت الصرخات تأتي من تحتها. في هذه اللحظة، لا يمكنك أن تكون ممتنّاً لأنّك على قيد الحياة، هذه المرّة، لأنك ترى هذا الألم وأنت تركض، وتحاول مساعدة شخص ما. تفعل هذا بالفطرة. أتمنّى ألّا يرى أحد مثل هذا الألم".
ويضيف أوزفرات: "الكورال عانى أيضاً من خسائر فادحة في الزلزال؛ رحل سبعة من أصدقائنا في الكورال. وهُم سوف يبقون كالعقدة في صدورنا، سوف نهدي إليهم كلّ حفلاتنا القادمة. نُريد أن نقول لكلّ الدنيا إنّ هذه الجوقة لم تُدمَّر، وأنّ أنطاكية سوف تقف من جديد على قدميها. سنجمِّع أعضاء الجوقة مرّة أُخرى. لقد أعطتنا هذه المدينة اسمنا حتى الآن، وحان الدور لنعيد للمدينة اسمها. هذه فترة مؤقّتة، وسوف نعود من جديد ونقيم الحفلات الموسيقية".
هذا الموقف من جوقة حضارات أنطاكية مهمّ للغاية بالنسبة إلينا نحن أهل أنطاكية. سوف نعود جميعاً، وسنغنِّي معاً مرّة أُخرى، ويصطدم صوتُنا بجبل الأقرع، وتعكسه أمواج المتوسّط العارمة في العالم مرّة أُخرى.
ملاك دينيز أوزدمير - كاتبة ومترجمة تركية / العربي الجديد
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال