Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

آراء مغاربية - تونس | إقامة جبرية في مكان غير معلوم

 

الحديث عن نائب رئيس حركة النهضة نورالدين البحيري لا يمكن دون الإشارة إلى دوره في إدارة سياسة التمكين الإخواني وهو الذي كان من أبرز القياديين الفاعلين خلال السنوات الأربعين الماضية.

يبدو من الصعب الاقتناع بأن قرار الدفع بنورالدين البحيري إلى الإقامة الجبرية في مكان غير معلوم يعود فقط إلى شبهة تورطه في ملف منح الجنسية وجواز السفر التونسيّيْن لمن لا يستحقهما، من خلال وثائق رسمية تم اختلاقها أو تزويرها خلال فترة حكم الترويكا الأولى، أي عندما كان البحيري وزيرا للعدل في حكومة حمادي الجبالي بين ديسمبر 2011 وفبراير 2013.

لا يمكن الحديث عن نائب رئيس حركة النهضة دون الإشارة إلى دوره المهم في إدارة سياسة التمكين الإخواني في البلاد، وهو الذي كان من أبرز القياديين الفاعلين خلال السنوات الأربعين الماضية، ويمكن القول إنه الوحيد من قياديي الصف الأول الذي لم يسجن خلال عهد نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ولم يضطر إلى مغادرة البلاد، وإنما استطاع أن يحافظ على شعرة معاوية في علاقته مع الأجهزة الرسمية، لاسيما أنه من مثّل الحركة في التوقيع على الميثاق الوطني في نوفمبر 1988، وكان يمارس عمله كمحام في النقض، ويدرك مجريات ما يحدث في قطاع القضاء، وامتلك بذلك تصورا لإمكانية التغلغل في هذا القطاع، وهو ما سعى لتحقيقه بالفعل بعد توليه الإشراف على حقيبة العدل في أول حكومة شكلتها حركة النهضة مع حليفيها آنذاك المؤتمر من أجل الجمهورية، بزعامة المنصف المرزوقي، والتكتل من أجل العمل والحريات، بقيادة مصطفى بن جعفر، اعتمادا على ما أفرزته نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي انتظمت في الثالث والعشرين من أكتوبر 2011.

وما إن تولّى البحيري الوزارة حتى بدأ في تصنيف القضاة وفق ما يعرفهم عنهم شخصيا أو ما تم إعداده من قبل فريق النهضة المكلف أو من خلال الوثائق والتقارير التي تم تجهيزها في إطار مشروع التمكين، ومن هذا المنطلق قرر إعفاء 82 قاضيا من مناصبهم بدعوى تورطهم في الفساد وتنفيذهم للأوامر السياسية في عهد بن علي، وهو ما تم اعتباره لاحقا أسلوبا ممنهجا لتركيع القضاة وإجبارهم على التبعية المباشرة لمشروع التمكين الإخواني، حيث أن قرار الإعفاء استهدف بعض القضاة ليكون رسالة تهديد غير مباشرة لمن لا يقبل تنفيذ أوامر معالي الوزير الذي استطاع أن يشكلّ مراكز نفوذ داخل القطاع القضائي من الصعب اختراقها، وواصل إدارة ملف هذا القطاع حتى بعد خروجه من الوزارة، مستفيدا من أن حركة النهضة كانت في السنوات العشر المنقضية القوة السياسية الأكثر تنظيما وهيكلة وتغلغلا في مفاصل الدولة حتى من خارج السلطة نتيجة شبكة تأثيرها الواسع داخل المؤسسات من خلال منتسبيها العقائديين أو تابعيها المصلحيين.

لا يمكن الحديث عن نائب رئيس حركة النهضة دون الإشارة إلى دوره المهم في إدارة سياسة التمكين الإخواني في البلاد، وهو الذي كان من أبرز القياديين الفاعلين خلال السنوات الأربعين الماضية

خلال السنوات الماضية قضت المحكمة الإدارية التونسية بإلغاء قرار إعفاء أغلب القضاة المستهدفين من قبل البحيري وإعادتهم إلى وظائفهم، لكن في المقابل كان التمكين الإخواني قد تكرّس أكثر عبر تغيير عدد من القضاة ولاءهم من نظام بن علي سابقا إلى ركاب حركة النهضة لاحقا، وكشف آخرون عن انتماءاتهم العقائدية الحقيقية، وأثرت سياسة الأوامر على الوضع العام ضمن منظومة انتقالية استغلها الإخوان سواء بالسيطرة على الهيئة الوقتية لمراقبة القضاء أو من خلال المجلس الأعلى للقضاء الذي تدخلت التوازنات والتحالفات الحزبية في تشكيله الانتخابي، فأدى ذلك إلى التلاعب بالملفات المهمة والمصيرية ومنها ما يتعلق بالاغتيالات السياسية والإرهاب وشبكات تسفير الشباب التونسي للقتال في الخارج، وخاصة في ليبيا وسوريا، وكذلك ملفات التنظيم السري لحركة النهضة والأمن الموازي والفساد الانتخابي والتمويلات الأجنبية للأحزاب، وغيرها، مع تدخل واضح للفصل في قضايا ذات صلة بنهب وإهدار المال العام من قبل أشخاص مقابل التشفي في آخرين للتغطية على هذا بذاك ضمن منظور المفاضلة في تحقيق المصالح الحزبية والفئوية وحتى الشخصية.

وكان قد تبين أن الإخوان قد استطاعوا التحكم في القضاء عبر قيادة مركزية قطاعية تدار سياسيا من قبل البحيري، الذي ترأس بعد تشريعيات 2014 كتلة حركة النهضة في البرلمان، وتم انتخابه في 2019 نائبا بالمجلس (البرلمان)، مع تمتعه بميزة أساسية وهي قربه من راشد الغنوشي الرئيس والأب الروحي لحركة النهضة، ونجاحه في أن يكون مهندس التمكين والناقل الرسمي لمواقف الحركة التي يتجنب الغنوشي التعبير عنها سواء في ما يتصل بالعلاقات الداخلية أو الخارجية أو بالسير العام للدولة، إلى جانب قدرة فائقة على الاختراق وعلى التخطيط المستقبلي وعلى تحديد متى يمكن أن يكون صداميا ومتى يمكن أن يتجنب الصدام مع الأجهزة الرسمية، كإحدى مخرجات تجربته في عهد بن علي.

عندما أعلن عن إخضاع البحيري للإقامة الجبرية في مكان غير معلوم (قبل أن يصبح معلوما)، كان واضحا أن الأمر مرتبط بعدة جوانب، أبرزها تباطؤ القضاء في حسم عدد من الملفات المهمة ومنها ملف التمويل الخارجي لبعض الأحزاب السياسية والقائمات والشخصيات المستقلة، وهو تباطؤ اعتبره الرئيس قيس سعيد متعمدا نتيجة تدخل بعض الأطراف الحزبية، في إشارة إلى حركة النهضة. وكذلك الصراع مع المجلس الأعلى للقضاء، وسيطرة الإخوان على نسبة مهمة من قراراته ومواقفه، وفق ما يراه أنصار تدابير الخامس والعشرين من يوليو الاستثنائية، واستمرار سيطرة البحيري على القطاع بغطاء سياسي يتمثل في التصعيد الممنهج لإقناع المعنيين بالأمر بأن ما يحدث مجرد انقلاب وسينتهي قريبا، وأن مصير من يسير في ركاب قيس سعيد سيكون كمصير من سار في ركاب بن علي، وهو ما جعل القضاء يفشل لمدة خمسة أشهر على الأقل في مواكبة التحولات السياسية التي تدور في البلاد، وفي التعامل معها كمعطى أساسي في إعادة قراءة الواقع.

كما أن البحيري لا يمكن فصل اسمه عن حقيقة مركزه السياسي المؤثر في حركة النهضة، وهو إلى جانب دوره الرئيسي في الجناح الذي تزعمه الغنوشي يعتبر من أكثر القياديين قدرة على التواصل مع مختلف الأطياف، ولديه علاقات واسعة مع قوى اليسار واليمين والوسط وحتى مع عدد كبير من المحسوبين على النظام السابق، وكان حتى الأسبوع الماضي ضابط اتصال فعلي بين من يعتبرون أنفسهم “ضد الانقلاب”. ولعل قرار وزارة الداخلية بوضعه قيد الإقامة الجبرية في مكان غير معلوم كان بهدف منعه من التواصل مع الفاعلين الأساسيين سواء ضمن منظومة القضاء أو ضمن شبكة العاملين على الإطاحة بتدابير وإجراءات الرئيس قيس سعيد الاستثنائية.

الحبيب الأسود - كاتب تونسي / العرب اللندنية

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال