الإسلاميون وداعموهم حاولوا استقطاب قيس سعيد إلى صفهم ليكون واجهة للحكم في استمرار لاستراتيجية المشاركة الرمزية في السلطة مقابل نفوذ قوي من وراء الستار لكن وجدوا أن الرجل غير قابل للتطويع.
بقطع النظر عن وجود الوثيقة التي تحثّ الرئيس قيس سعيد على تفعيل الفصل 80، والذي يعني بمنطوق القول تنفيذ انقلاب في واضحة النهار، وهل تم تسريبها من القصر أم أرسلت من جهة أخرى، فإن الهدف منها هو وضع قيس سعيد في الزاوية ومحاصرته باعتماد أذرع محلية وإقليمية للإسلاميين، وهي أذرع خرجت من صراع المحاور الإقليمي في وضع أفضل بعد أن تراجع حضور خصومها بشكل لافت.
ليس هناك شك في أن الحملة على الرئيس سعيد قد أخذت بعدا أقوى بعد زيارته إلى مصر وإطلاقه تصريحات بشأن الإسلاميين فُهمت على أنه اختار الحلف المقابل لهم وبحماس لافت.
الوثيقة المسرّبة ليس فيها شيء جديد، فهي تضم بين سطورها أفكارا تفصيلية سبق أن تحدث بها علنا قياديون في أحزاب الحزام المحيط بالرئيس سعيد
لكن الرئيس التونسي اختار التوقيت الخطأ في اللحاق بمحور معارضة الإسلاميين، فمصر التي زارها كانت وقتها تستعد للانفتاح على تركيا، وتم تسريع هذا الانفتاح ليشمل قطر مع نسيان كليّ لصراع الماضي. وحدها المصالح تتكلّم. وآخرها دعوة قطر للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لزيارة الدوحة.
كل ما تم ويتم غامض ومثير للشكوك لكنه أنهى كل تلك الخلافات وأنهى سردية المعارك لأجل الإسلام السياسي بجرّة قلم.
هناك حقيقة واضحة للعيان أن دول الخليج التي كانت في الطرف المقابل لتحالف قطر وتركيا والإسلاميين قد غيّرت أجندتها بشكل كامل، ولحسابات تتعلق بأمنها القومي ومصالحها وتحالفاتها، واختارت أن تركز على مقاربة جديدة في العلاقات؛ بعضها يقوم على تحالفات مع الكبار بعيدا عن وجع الرأس حتى وإن ظل إعلامها يشتغل ضد الإسلام السياسي.
والبعض الآخر يظهر بصفة خاصة في حالة السعودية التي تبني استراتيجية جديدة تقوم بالتركيز على تطوير واقع السعودية واقتصادها وإمكانياتها العريضة التي تحولها إلى قوة ذات وزن دوليا، وموضوع التحالفات ليس مهمّا الآن.
يُتوقع أن تفضي زيارة هشام المشيشي المرتقبة إلى قطر إلى نتائج استعراضية
من الواضح أن سياسة المحاور في المنطقة قد انتهت، لكن تونس قد تستثنى من هذه المصالحات في ظل استعداد داخلي للعبة تأسست عليها أحزاب وجمعيات وخلقت التوازنات في البرلمان، وأي سقوط لها سيكون بمثابة الزلزال.
وبالنتيجة، فإن قيس سعيد لم يجد من التحالف الذي قرر أن يلتحق به سوى فرنسا التي لديها مشاكل بعدد شعر الرأس، كما يقول المثل العامي. لديها مشاكل داخلية، وصراع مع إسلاموية محلية صاعدة وقوية بنت نفسها في فترة الهدوء ويتشابك في عناصر قوتها توظيف معاناة المهاجرين واستثمار خطاب اليمين المتشدد في الضفة المقابلة. وفرنسا مورطة في دول الساحل، وليس لديها من الوقت والجهد للتحالفات.
الوثيقة المسرّبة ليس فيها شيء جديد، فهي تضم بين سطورها أفكارا تفصيلية سبق أن تحدث بها علنا قياديون في أحزاب الحزام المحيط بالرئيس سعيد، وخاصة محمد عبو الأمين العام الأسبق للتيار الديمقراطي. كما أن قيس سعيد ليس هو كاتبها ولا مرسلها ولا متلقيها، ولكن يتم توظيفها على أنها خطة القصر لإحداث “انقلاب على الشرعية”.
قد تكون الوثيقة مفبركة أو مدسوسة، وقد تكون فعلا مسربة من داخل مؤسسة رئاسة الجمهورية، كما رجّحت ذلك رشيدة النيفر، المستشارة السابقة في رئاسة الجمهورية حين قالت في تصريحات لها “أنزّه رئيس الجمهورية ولا أنزه رئاسة الجمهورية”، متحدثة عن اختراقات من طرف قوى دولية.
حاول الإسلاميون وداعموهم استقطاب قيس سعيد إلى صفهم ليكون واجهة للحكم في استمرار لاستراتيجية المشاركة الرمزية لحركة النهضة في السلطة مقابل نفوذ قوي من وراء الستار. لكن وجدوا أن الرجل مختلف وغير قابل للتطويع لأمر يتعلق بشخصيته، وقناعته بأنه يحمل دورا رسوليا في إنقاذ البلاد، وتغيير الوضع تغييرا شاملا.
في البداية بدت هذه الطوباوية سذاجة وخفة، لكن بمرور الوقت تحولت إلى حالة عويصة بالنسبة إلى الإسلاميين وأن عليهم أن يجدوا لها حلا. وفشلت محاولات الغنوشي في التهدئة ومساعي قطر لإظهار الحفاوة بقيس سعيد ومنحه مهمات رمزية اعتبارية مثل الإشراف على “الرابطة الدولية لفقهاء القانون الدستوري”.
ولم يبق سوى التصعيد وحمل قيس سعيد على التراجع، وذلك بتوظيف حملات إعلامية مستمرة تلعب على أعصاب الرئيس التونسي وتزيد من ردّات فعله وإرباكه بمواضيع متشابكة، وهنا جاءت التسريبات المختلفة التي عملت على التشكيك في مصداقيته، وخاصة نظافة اليد والحزم في محاربة الفساد.
قيس سعيد لم يجد من التحالف الذي قرر أن يلتحق به سوى فرنسا
ولا شك أن الإسلاميين هم الأقدر على إدارة هذا النوع من المعارك بسبب حضورهم الطاغي في مواقع التواصل الاجتماعي. يضاف إلى ذلك ضعف الحزام البرلماني والحزب الذي يدعم الرئيس، وهو حزام محدود عدديا وعاجز عن المناورة وتوسيع قاعدة الحلفاء.
وربما ساهم هذا الحزام، بالإضافة إلى ضعف الفريق الاستشاري العامل في قصر قرطاج، في ما وصل إليه الرئيس من قطيعة تامة مع رئيس البرلمان ورئيس الحكومة ومنعه من الإمساك بأوراق ضرورية في المناورة.
وفي الوقت الذي تضع الخطة كهدف رئيسي لها، قصر اهتمام قيس سعيد على معارك تبرئة الذات، فإنها كذلك بدأت تبني سلطة موازية باستقلال تام عنه، وذلك بتقوية رئيس الحكومة وتوسيع تحالفه وفتح أفق الدعم أمامه، وهو ما كشفت عنه نتائج زيارته لليبيا، وما رافقها من استعراض، حيث سافر معه أكثر من ألف من رجال الأعمال، وبمشاركة لافتة لأمين عام اتحاد الشغل نورالدين الطبوبي، وسمير ماجول رئيس اتحاد أرباب العمل، وحظي بحفاوة الفريق الحكومي الجديد المحسوب في أغلبه على الإسلاميين.
ويتوقع أن تفضي زيارة رئيس الحكومة هشام المشيشي المرتقبة إلى قطر إلى نتائج استعراضية أيضا، وفق ما راج من تسريبات بعد زيارة الغنوشي قبله، وخاصة ما تعلق بدعم الدوحة لجهود تونس في الحصول على التلقيح ضد الوباء. والأمر نفسه بالنسبة إلى زيارة الغنوشي للجزائر وتركيا.
ووجود الطبوبي وماجول ضمن الوفد الاستعراضي الذي ذهب إلى ليبيا، ونقل تصريحات مصورة للطبوبي يحث على الاستثمار في تونس دلالة رمزية على الفرز الذي يتم لمحاصرة قيس سعيد خاصة في ضوء فتور حماسه لمبادرة اتحاد الشغل بشأن الحوار الوطني.
وللإشارة، فإن بيان النهضة، الثلاثاء، كان قد حث على “تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن المسار الديمقراطي والحقوق والحريات والوقوف سدا منيعا أمام كل مخططات الارتداد عن الخيار الديمقراطي”، وهو ما يظهر رغبة في تحويل الخلافات مع قيس سعيد إلى فرصة لاستقطاب جديد يضم كل الذين لديهم مؤاخذات على أدائه أو يختلفون معه بشأن رؤيته للتغيير.
الرئيس التونسي اختار التوقيت الخطأ في اللحاق بمحور معارضة الإسلاميين، فمصر التي زارها كانت وقتها تستعد للانفتاح على تركيا، وتم تسريع هذا الانفتاح ليشمل قطر
ورغم أن الرئيس التونسي بدا وحيدا أمام هذه الضغوط، التي تم توسيعها إلى خارج تونس من خلال التسريب الذي نشر في موقع معروف بقربه من قطر، فإن ذلك لم يخف حقيقة الأزمة التي تعيشها البلاد بشأن أزمة الحكم القائمة، وفشل منظومة 2011 في التوصل إلى تهدئة تسمح للبلاد بدخول الإصلاحات الضرورية للخروج من أزماتها المتداخلة.
كما أن نقص خبرة قيس سعيد واندفاعه لمواجهة أحزاب الحكم والدوائر المستفيدة من الفساد ككتلة واحدة، وضعف حزامه ومحدودية أداء مؤسسة القصر، كلها عناصر لا تلغي الحقيقة التي باتت مشتركة بين نسبة عالية من التونسيين، وهي أن منظومة الحكم الحالية أثبتت فشلها على المدى الطويل، والدليل العجز عن تجاوز مشكلة تشكيل الحكومة وتوحيد البلاد في مواجهة أزمة كورونا، والخلافات الحادة بشأن الالتجاء إلى صندوق النقد الدولي، وهو وضع كارثي بكل المقاييس يجعل البلاد أمام خطر داهم حقيقي لا ينفع معه تفعيل الفصل 80 ولا انقلاب افتراضي يجري الاشتغال عليه لفائدة قيس سعيد أو ضده.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال