منذ وصول بشّار الأسد إلى السّلطة، مرّت سورية بتحوّلاتٍ اجتماعيّة سياسيّة، وأخرى اجتماعيّة اقتصاديّة هائلة، ما سبّب تمزّقاتٍ طفتْ على السطح على نحوٍ مؤلم مع اندلاع انتفاضة عام 2011، إلاّ أنّه يصعب تحديدُ طبيعة تلك التحوّلات ومداها بما يلزم من الدقّة، فخلال حكم الأسد، وهو ابنُ حاكمٍ مستبدّ، كما هو وافدٌ حداثيّ متعّلم..
وكان من الصعب تغيير المجتمع السوري، أو تطويره، من دون أحداثٍ عظيمةٍ ترقى إلى مستوى انهيارات مجتمعية، هو الذي يرتبط بثوابت قوية، أبرزها المرتكزات الخطيرة التي رسمها حزب البعث، بمساعدةِ المدرسة الدينية التي رسّختْ أطرَ البيئة الاجتماعية الرافضة أيّة دعوى خارج مسلّماتها المقدّسة، محافظةً على أفكار التوحيد والتدين، ونبذ الحركات الداعية إلى أيّ فكرٍ خارج دائرة القيم المغلقة، فلم يُسجَّل أيُّ خروج قيمي أو أخلاقي في البيئة السورية، بأعدادٍ كبيرة أو ملفتة للنظر، في وقتٍ رعى النظام السوري في دمشق أكبر طفرة في بناء الجوامع، إضافة إلى إنشاء معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم. والأهم من هذا كلّه، أنه وبينما كان النظام يدّعي العلمانية، كان حريصاً في دستوره على النصّ أنّ دينَ رئيس الدولة هو الإسلام، وأنّ الشريعةَ الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، هذه البراغماتية أصرّت من موقعها في السلطة، على احتواء جمهور الإسلام الشعبي، عبر مؤسسات الإفتاء والأوقاف وخطباء الجوامع.
وأوّلُ ما تمخّض عن ثنائية الاستبداد الإقصائية آنفة الذكر انقسامُ المجتمع السوري على نفسه إبان الثورة السورية بين مؤيد ومعارض لها، وكانت المؤسسةُ الدينية قد أثرت لاحقاً على فرزِ كوادر الثورة، فمثلاً كان ظهورُ الجيش الحرّ مؤشّراً إيجابياً، ودلالة مهمة لتحرّر البيئةِ القديمة وانفلاتها من ثوابت النظام وتأطيراته، ومن مؤسساته السياسية والعسكرية، كذلك مدرسته الدينية، فمثّل نقلةً نوعية تجاه الانعتاق التحرّري. أما ظهور التنظيمات الجهادية الإسلامية المتطرفة، أهمها الدولة الإسلامية (داعش)، فقد مثّل نقطةً سلبية يمكن نسبها لبعض الرواسب العالقة من البيئة الاجتماعية السابقة، والمستمدة أساساً من المدرسة الدينية للنظام.
وبالتأكيد، عرف النظام جيداً أنّ آليةَ فصلِ الدين عن الدولة هي الهوّة السحيقة التي ستبتلع سلطته الثابتة، والتاريخ خير دليل، حيث عاشت المسيحيةُ الغربية صراعاتٍ دامية وانقساماتٍ مذهبية متعدّدة، قبل أن توقّع الإمبراطورية الرومانية المقدسة، في عام 1648، صلح وستفاليا، الذي أنهى حقبة الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك. وأهمية هذا الصلح أنه أرسى نظاماً جديداً في أوروبا، ما سمح لاحقاً بتطور أنظمة الحكم، والإدارة، والاقتصاد، بعيداً عن هيمنةِ النصّ الديني ومصالح الكنيسة. من هنا تأتي فرادةُ النموذج السلطوي في سورية الذي استطاع تسخيرَ كلّ شيء من أجل خدمةِ كرسيه المقدّس، وتحقيقِ ما يريده بغضّ النظر عن مصلحةِ المجموع. ولذلك كان من المتعذّر أن تتفهمَ السلطةُ مطالب السوريين، ما جعلها عاجزة بنيوياً عن أيّ إصلاح، لأنّ بنيتها لا يمكن أن تقبل ذلك، فهي ترى المواطنين مجرّد قطعانٍ مبرمجةٍ على السير وفق ما ترتئيه من خيارات، بدليل غيابِ مصطلح الشعب، مفهوما سياسيا وحقوقيا، عن خطاب السلطة لصالح مصطلح الجماهير الدوغمائي.
كسرت الثورةَ احتكار "البعث" الحياة السياسية، كما ابتلعتْ شعاراتُها رهبةَ مؤسسات الروتين والبيروقراطية الحكومية، وحرّكتْ حسّ المسؤولية المجتمعية
وبعد عشر سنوات على انطلاقِ الثورة السورية، والتي بدتْ، منذ البدايةِ، أشبه بديكورٍ باذخٍ في مسرحِ الوطن الفقير. وعلى الرغم من مآلاتها الراهنة، فقد نجحتْ بتعريةِ ثنائية الاستبدادين، البعثي والديني، فالأول دافع عن بقائه ضد الشعب من خلال إيجاد استقطاباتٍ مذهبية وإثنية ومناطقية، كما استقوى بدول ومليشيات ساهمت بتدمير المجتمع وبنى الدولة، فيما ذهب الإسلام السياسي إلى اعتماد الخطاب الطائفي والتقسيمي للسوريين، واستعان بقوى أشدّ تخلفاً ووحشية، في وقتٍ فشلت فيه آلافُ المنظمات والمؤتمرات في إحداثِ تأثيرٍ يتناسب مع حجمها وعددها وتمويلها، بل على العكس، أدى أغلبها إلى ترسيخِ المجتمع الأهلي ودعم البنى التقليدية القائمة. والحقيقة أنه بعد عام 2000، بدأت قوى معارضة تحاول مديَنَة المجتمع السوري. وعلى الرغم من جديّة بعض القوى، إلا أن كثيرا منها كانت تهدف، في جوهرها، إلى الدخولِ في النضال السياسي من بوابة المجتمع، غير أنّ كلّ تلك الأشكالِ الحداثية واللمساتِ الديمقراطية لم تغيّر من واقع ارتباطها بأشخاص لا يتغيّرون أبداً، أو تعود ملكيتها لعائلةٍ أو طائفةٍ أو جماعةٍ إيديولوجية. وعلى الرغم من أنّ للظروف الموضوعية التي مرَّ بها السوريون عموماً دور كبير في ذلك الفشل، إلا أنّ إشكالاتٍ ذاتية في بُنى تلك المنظمات وطبيعتها أدّتْ إلى تأكيد ذلك الفشل، وفتحِ الباب واسعاً أمام التيارات الارتدادية، فالمجتمع المدني ليس بهياكل منظمات قائمة، مثل اتحاد العمال والاتحاد النسائي، وغير ذلك من المؤسسات، والنقابات، والاتحادات، التي تلبس بهتاناً لبوساً حداثياً، ولم تتشكّل استجابةً للتحديات التي واجهت المجتمع السوري، بل كان تشكيلها سلطوياً فوقياً. وبالتالي لم تكن تلك المنظمات سوى كانتونات هزيلة، مهمتها تدعيم سلطة الاستبداد، وتحويلها إلى مداجن لتفريخ (الشبيحة) عند الحاجة.
ينبغي القبول بواقع أنّ الثورةَ السورية ستبقى رهنَ الاستلاب، ومعرّضة للقرصنة حتّى في لحظاتِ ذروة انتصارها
مع هذا، كسرت الثورةَ احتكار "البعث" الحياة السياسية، كما ابتلعتْ شعاراتُها رهبةَ مؤسسات الروتين والبيروقراطية الحكومية، وحرّكتْ حسّ المسؤولية المجتمعية. ويمكن القول إنّ مساحةَ المشاركة التي توفّرت للسوريين في المؤسساتِ المدنية أو السياسية، إضافة إلى التخلّص من مخاوف الحديث في السياسية، أوجدت حالةً من التحرّر النفسي. ولم يعد بالإمكان الاستغناء عنها، بعد انفتاحِ الأفق السياسي وخروجِ المسكوت عنه، والمخبوء تحت قشرةٍ واهيةٍ من التفاهمات الموهومة. واليوم، يجب أن يدركَ الشعبُ السوري أنه يعيش مرحلةَ ما بعد الثورة، أيّ مرحلة الفوضى التي تعقب كل الثورات، وبالتالي مسؤولية النخب والمواطنين السوريين تكمن في الذهابِ مباشرة إلى إعادةِ تأسيسِ عقدٍ اجتماعي جديد، وليس إيجاد نظام حكمٍ مشوّه قائم على فكرة التشاركية بين المعارضة والنظام، بعدما تحوّل الوطنُ إلى مجرّد مسرحٍ يسمح للسلطات المتوحشة باستعراض قوتها، وسرد خرافاتها، عن طريقِ استعمالِ الوعود تارة، والوعيد تارة أخرى.
وفي الحقيقة، مأزق عسكرة الثورة السورية كان القشّةَ التي قصمتْ ظهرَ الحلم السوري، بينما نجح النظام، إلى حدّ كبير، في استدراج قوى كثيرة إليه من منطلقِ الدفاعِ عن الذات. وبالتالي، تبريرِ مزيد من القمعِ والعنفِ من جانبه، ومنحِ كلّ الذرائع والمسوغات لاستخدامِ ترسانته العسكرية الضخمة، في قتل شعبٍ أعزلٍ نفض عن أكتافه غبار الذلّ والصمت، وثار لأجل كرامته المهدورة منذ عقود خمسة. ومعروفٌ، في الأدب السياسي، أنّ الثورات يصنعها الشجعان، في حين يحصد ثمارها الانتهازيون والجبناء. ولهذا، ينبغي القبول بواقع أنّ الثورةَ السورية ستبقى رهنَ الاستلاب، ومعرّضة للقرصنة حتّى في لحظاتِ ذروة انتصارها.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال