Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

معركة: الصناديق


ما الّذي يحدث عندما يغيب الاستقرار السياسيّ وتحلّ أزمات تعصف بـ«التوافق» المنشود؟
ما الّذي يحدث عندما تشعر القوى المهيمنة أنّ مصالحها باتت مهدّدة ، وأنّ إرهاصات الغضب الشعبي صارت جليّة؟
ليس أمام الفاعلين السياسيين في مثل هذه الحالة، إلاّ الاستماتة في سبيل الدفاع عن استحقاقاتهم وشرعيتهم والتفكير في أشكال التصدّي لجبهات المقاومة ومواجهة السيناريوهات الممكنة، وعلى رأسها سقوط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرّة. وليس إطلاق صندوق الزكاة في مثل هذا السياق،في اعتقادنا، إلاّ استراتيجيا تعبويّة تظهر في لبوس اجتماعيّ/دينيّ لكسب معركة سياسية: صندوق الانتخابات. ولا عجب في ذلك فبعد أزمة الثقة في السياسيين ما عاد بالإمكان تحريك سواكن الجموع إلاّ بالعزف على أوتار الدين، وبعد أزمة الكورونا وما ترتّب عنها من تضاعف أعداد المفقّرين والمعطّلين و«المستضعفين» لا حلّ إلاّ في تفعيل مقولة «الإسلام هو الحلّ» وما يستتبعها من تعويل على العمل الخيريّ.
وبما أنّ حجّة الدفاع عن الإسلام قد اختبرت من زمان فكانت ذات «نجاعة»، خاصّة في سياق الأزمات والشعور بالمخاوف وحاجة الجموع إلى «تفريج الغمّة» وخطاب دينيّ مطمئن فلا بأس من استعادة الاستراتيجيات القديمة القائمة على تقسيم التونسيين إلى معسكرين : معسكر المنافحين عن الدين والفرائض والخير والمقدّس... في مقابل معسكر المدافعين عن مدنية الدولة والدستور ومؤسسات الدولة وقيم الجمهورية... ليفضي الأمر إلى جدال وعنف لفظي وتكفير وشيطنة العدوّ وتبادل للتهم والتخوين...
ولا يذهبّن في الظنّ أنّ المعجم قد تطوّر. فمن خالفني الرأي صار عدوّا بل عدوّ الله وخارجا من الملّة أو هو في منظور الشقّ الآخر، عدوّ الحداثة ومنقلب على الدستور ومدنيّة الدولة و«داعشي» وبيدق في يد قطر وتركيا... بل وصل الأمر إلى اعتبار من لم يصرّح بموقفه من صندوق الزكاة حتى وإن كان من نفس «معسكر الحداثيين» ، راضيا عن الأسلمة،.. وانتقل الصراع من اختلاف حول تأويل الشريعة والنصّ القرآني، وثوابت الدين.. إلى اختلاف حول تأويل فصول من الدستور.
غير أنّ ما يهمّنا في هذه المعارك هو التلاعب بالمفردات والدلالات وما ينجم عنها من نتائج إذ تغدو الهبة المنصوص عليها في النص القانونيّ في نظر مطلقي مشروع الصندوق، زكاة، والحال أنّ أحكام الهبة تختلف عن أحكام الزكاة، ويتحوّل رافض تأسيس هذا الصندوق في متخيّل بعضهم، إلى منكر لفريضة من فرائض الإسلام بل هو محارب لله ورسوله، لاسيما ونحن في «العشر الأواخر بقدسيتها» (نور الدين الخادمي)ومن هنا وجب شنّ الحرب عليه أسوة بما فعله أبو بكر الصدّيق. أمّا من سيقدّم زكاته «فسيحتسب ذلك في ميزان حسناته» وفق «الإدارة الشرعيّة» (فتحي العيوني) ويغدو الحكم المحليّ حجّة على الاستقلالية ورفضا للوصاية وتدبيرا...ويصبح الإصرار على تسمية الصندوق بصندوق الزكاة تعبيرا عن الحريّة.
إنّ ما يسترعي الانتباه في هذا الخطاب هو إرادة التموقع: تموقع رئيس البلدية سياسيا ودعويّا فهو يتدبّر شؤون الرعيّة بانتمائه الحزبيّ وإمامته للجموع ومن ثمّة فإنّه يعبّر عن رؤية للمجتمع تذكّرنا بخطاب الخليفة الـ6 ترسّخ التمييز، وتعكس فكرة عبّر عنها عدد من قياديي النهضة عندما تحدّثوا عن «شعب النهضة» وبناء على هذا التصوّر تُدار الأموال وفق قرارات «العلماء» الّذين وجدوا في «الهيئة الشرعية» ضالتهم، ممنّين أنفسهم باستعادة سلطتهم، وتذهب الزكاة إلى أهل الصلاح من المستضعفين إذ لا مجال لأن تصرف أموال الزكاة على «الملاحدة والكفّار».
أمّا معارضو إنشاء مثل هذه الصناديق فإنّهم يتموقعون باعتبارهم ممثّلي المدنيّة والحداثة والدستور... ومادام الطرف الأول قد بدأ بشنّ الهجوم والإعلان عن سلطته فإنّ على الطرف الثاني أن يردّ الفعل من موقع الدفاع وحسب شروط المقاومة وكأنّه لا مجال لابتكار استراتيجيات أخرى للدفاع عن التصورات والرؤى والقيم.
لا ينفصل الجدال حول صندوق الزكاة في رأينا، عن معركة صناديق الانتخابات التي انطلقت مبكّرا (الرهان على الصورة :المكّي نموذجا) وبخطاب إسلاميّ معلن (الخادمي، العيوني...) ولكن لا يجب أن تحجب صناديق الزكاة وصناديق الانتخابات عنّا الرؤية: صناديق الموتى في مسار الجائحة... فما ضرّ لو اتّفقنا على أولوية التصدّي للفقر والبطالة والجوع والمرض... وتمّت التعبئة على قاعدة المواطنة المسؤولة والعمل التطوعيّ والوطنية وكان الخطاب بمفردات ترسّخ ثقافة المواطنة وتتعالى على اطر الطبقة والعنصر، واللون والجنس، والدين... ولا همّ له سوى التصدّي للفساد،والإثراء غير المشروع، والتلاعب بالقانون، والإفلات من العقاب...

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال