Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

الجزائر: بين العهدة الخامسة والمترشحون الخمسة

الفتور الذي أصبح عليه الحراك الجزائري في الأسابيع الأخيرة بعيد كل البعد عن تعبير “الموت السريري” الذي استعمله بعض من لا يتعمقون في دراسة نشوء وتطور أروع حراك شعبي سلمي عرفه العالم، بما في ذلك تظاهرات السود في الولايات المتحدة الأمريكية تحت لواء مارتن لوثر كنغ.
فالذي حدث، في تصوري، هو أن المكونات البشرية الأساسية في الحراك الشعبي انتقلت من الشوارع والميادين إلى البيوت والمقاهي واللقاءات الجانبية، وكان هذا تطورا طبيعيا تسبب فيه أكثر من عنصر، أولها أن الجماهير أحست بأن الهدف الحقيقي من انفجار فبراير 2019 قد تحقق وبصورة تجاوزت ما كان متوقعا في الأيام الأولى.
فلم تجهض مهزلة العهدة الخامسة فحسب بل تم التخلص نهائيا من رئيس الجمهورية، الذي أصبح في سنواته الأخيرة مجرد دمية في يد مجموعة لا دستورية، جعلت من الوضعية السياسية في الجزائر مثار سخرية العالم بأسره.
وللمرة الأولى في تاريخ الجزائر المستقلة، وبفضل الحراك الذي أبهر العالم بسلميته وبإصراره، استضافت السجون أهم العناصر التي تتحمل مسؤولية الفساد والإفساد، وضمت تشكيلة من المسؤولين السياسيين ورجال المال والأعمال، كان مجرد ذكر اسم أحدهم في مقال صحفي كافيا لإلقاء قائله في غياهب السجن، وهو ما حدث بالفعل مع الرفيق نذير بو القرون، مدير تحرير “صوت الأحرار”.
وكان السبب الثاني في التقلص التدريجي لحجم الحشود هو بروز توجهات معينة حاولت ركوب موجة الحراك بضخ كميات من اللافتات والشعارات والرموز التي تجسد إرادة سرقة التحركات الشعبية وانتحال صفة تمثيلها وتجسيد إرادتها لتحقيق أهداف لا علاقة لها بتوجهات الجماهير.
وزاد من نفور الجماهير بروز إرادة واضحة لتوجهات حزبية معينة في محاولة الانتقام من قيادة المؤسسة العسكرية التي رفضت تمكين تلك التوجهات من ركوب موجة الحراك الشعبي وتمسكت باحترام الدستور نصا وروحا، بعد أن درست التطورات التي عرفتها بلدان كثيرة من بينها فرنسا دوغول في 1958 وتونس بوعزيزي في بداية العشرية الجديدة، وبالطبع، تجربة الجزائر الدموية في التسعينيات، عندما أدى الخروج عن نصوص الدستور بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد إلى مأساة رهيبة سقط فيها نحو ربع مليون ضحية، وضاعت فيها مئات الملايير من ثروة الأمة، بالإضافة إلى الخلل الذي عرفته إدارة شؤون البلاد وتضاءل التألق الجزائري على المستوى الجهوي والدولي.
وكان مما ضاعف من نفور الجماهير الأساليب البذيئة التي استعملها البعض في الهجوم على المؤسسة العسكرية، التي يعرف الجميع أن لها فضلا كبيرا في ضمان سلمية التظاهرات الجماهيرية، بحيث أصبحت تجمعات الحراك أقرب إلى الاحتفالات الجماهيرية التي يصطحب فيها المواطن زوجه وأبنائه بل والشيوخ من أقاربه.
غير أننا فوجئنا مؤخرا بظاهرة أثارت الكثير من الاستياء، وهي بروز تجمعات من بعض عناصر ما يُسمى، أدبا، بالمجتمع المدني، وتضم جمعيات ليس لمعظمها وجود فاعل على الساحة الاجتماعية أو بعض العاطلين من رواد المقاهي الشعبية أو مواطنون لا ينقصهم حسن النية ور يرتبطون بأي تنظيم كان، وراح كل هؤلاء يتجمعون في مظاهرات هزيلة ترفع لواء تأييد المؤسسة العسكرية وتطالب بالانتخابات الرئاسية.
وبالرغم من أن هذا هو مضمون الإرادة الجماهيرية فإن التنظيم الفولكوري الهزيل لهذه التظاهرات، التي لم تحاول السلطات العامة التدخل في أمرها، جعل الجميع يتعاملون معها بالكثير من السخرية، ولقبها البعض بالمظاهرات “العفوية”، تذكيرا بالمظاهرات التي دُبّرت في التسعينيات للتنديد بقيادات سياسية متميزة ارتبط نشاطها بجمعية “سانت إيجديو”، التي احتضنت محاولة جزائرية مخلصة للخروج بالجزائر من أزمة دموية رهيبة تسبب فيها خروج السلطات عن قواعد الدستور، وضمت يومها من القيادات المتميزة أحمد بن بله وحسين آيت أحمد وعبد الحميد مهري وآخرين وخصوصا من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أي مجموع الفاعلين الأساسيين على الساحة السياسية.
وكان مما فضح الخلفيات المغرضة لبعض التعليقات هو ادعاء بعض الأصوات المسمومة بأن هذه المظاهرات الفولكلورية الهزيلة هي محاولة من السلطات العمومية لخلق صدام بين عناصرها وبين عناصر الحراك الحقيقي، والمقصود بالأخيرة التجمعات النشطة التي تدفع بها التوجهات اللائكية والبربرية إلى الشارع لمواصلة الادعاء بأنها هي الصوت النزيه للجماهير.
وتثور اليوم شكوك كثيرة بأن مجرد ترديد تلك الادعاءات هو إعداد  لاستثارة شغب من نوع ما في الشارع، يمكن أن يؤدي إلى اتخاذ قرار بتأجيل الانتخابات الرئاسية التي ترفضها عناصر الأقلية السياسية والفكرية، بعد يقينها بأنها لن تنجح في فرض إرادتها على الأغلبية الوطنية.
وإثارة الشغب أصبح هدفا لتلك الأقليات بعد أن فشلت كل محاولات استثارة عناصر الأمن كما سبق أن ذكرت في أحاديث سابقة، خصوصا وأن التجمعات المفتعلة، وبرغم نوايا طيبة لا يمكن إنكارها، تبدو سيئة التنظيم هزيلة الأداء، ولا يبدو أن كثيرين من المشاركين فيها يتمتعون بالوعي السياسي والهيكلة العقائدية، ومن الممكن أن تواجههم تجمعات مؤدلجة متمرنة على أساليب الكرّ والفّر عبر سنوات وسنوات، مما يُسهّل مهمة الاستفزاز.
وأنا أتفهم الحرج الذي يتملك السلطات وهي ترفض إيقاف هذه التظاهرات المضحكة، حتى لا تتهم بأنها تتناقض مع إرادة المواطنين العاديين وتصدّ التوجهات الشعبية البسيطة وتمنع التعبير التلقائي عنها في حين أنها سمحت بالتظاهرات التي دبرت للإساءة لها، بل وللجزائر بأجمعها، والتي اتمت بالخيانة رجالا يعرف الجميع قيمتهم الجهادية.
ويأتي عنصر جديد جعل الحراك الشعبي يتجه أكثر إلى اللقاءات الجانبية مما ينفى صفة الموت السريري التي استعملها البعض، وهو إعلان أسماء المترشحين لرئاسة الجمهورية.
وفي البداية، تحركت العناصر المعادية لإجراء الانتخابات الرئاسية لتردد عبارات السخط والاستياء من المرشحين الخمسة الذين أفرزتهم اللجنة المستقلة لتنظيم الانتخابات، برئاسة القانوني محمد شرفي، الذي كان قد عُزل من وزارة العدل في عهد الرئيس عبد العزيز بو تفليقة.
لكن الغريب هو أن شعبنا، بأسلوبه المعتاد في رفض الأحكام التي يحاول كثيرون إقناعه بصوابها، راح يواجه ما يسمعه من تعليقات بتعليقات مضادة فيها الكثير من المنطق وسلامة الحجة.
وبدأ الأمر بنكتة ساخرة، فيها حق مؤكد، وهو القول بأننا وقفنا ضد عهدة تحمل رقم خمسة، فجاءونا بمترشحين عددهم خمسة، أي أننا لم نخرج من هذا الرقم رغم هتافات الحراك.
وقال متفلسف بأن الأمر مرتبط بأركان الإسلام الخمسة، وهو تعليق اختفى بسرعة بعد أن ووجه بعنف لفظي كاد أن يتطور إلى ما هو أخطر من ذلك.
وتواصلت التعليقات، فلمن قال بان كل هؤلاء المرشحين هم أبناء لنظام خرجت الجماهير لإسقاطه، كان الرد البسيط على القائل: وأنت، ألم تكن بشكل ما من أبناء النظام، موظفا ساميا أو برلمانيا قديما أو منتخبا محليا أو ديبلوماسيا أو حزبيا يتلقى حزبه إعانة منتظمة من نظام الحكم؟.
وألم تستفد من هذا النظام بشكل ما، شقة سكنية أو علاجا مجانيا أو إضاءة لحيّك السكني أو تمدرسا للأبناء أو تخلصا من فضلاتك المنزلية؟
وقد يواصل البعض بتحدّ يتباين هدوءا وعنفا: ماذا فعلت أنت طوال السنوات الماضية لتسقط النظام الذي تندد به اليوم؟
ووصل الأمر إلى أن البعض رفع في مواجهة شعار “يتنحاوْ قع” (فليرحلوا جميعا) شعار “نتربّاوْ قع” (أي فلنتمتع جميعا بالتربية التي يتحمل بها كل مواطن مسؤولياته الاجتماعية).
أما التعليق الرئيسي الذي ردده البعض بوقار وطني يمكن أن يخدع الكثيرين فهو الاحتجاج بأن في الجزائر عشرات بل مئات يفوقون المترشحين الخمسة خبرة وذكاء وممارسة للواجبات الوطنية، فالجزائر، يقول صاحبنا الوقور، هي أكبر بكثير من هؤلاء الخمسة، وهو ما لا يمكن أن ينكره عاقل، لكن المواطن العادي يجيب بكل بساطة، ولماذا لم يتقدم أولئك الأخيار الأكفاء النزهاء للترشح، وكل شيئ كان يتم على الملأ وتتابعه جماهير يقِظة لا تخفى عليها خافية ؟
وإذا كان هناك من لزموا ديارهم، وأيا كان مبرر ذلك، شيخوخة أو خوفا أو تعففا، فالمرشحون الحاليون هم أناس شجعان تحملوا مسؤولية التقدم إلى جماهير أعطت كل واحد منهم حقه الدستوري في عدد المواطنين المفروض الحصول عليه لضمان الترشح، ومن كان يملك ضد أحدهم اتهاما واضحا فليتقدم به عبر أكثر من مائة صحيفة وعشرة قنوات تلفزة بجانب اللافتات التي تخصص بعضها في تخوين رئيس أركان المؤسسة العسكرية بدون أن تحاول عناصر الأمن انتزاعها من المتظاهرين المجندين ضد الانتخابات الرئاسية.
وهنا، فيما أرى، يصل المواطن الجزائري إلى اليقين بأن من حقه أن يتوجه إلى صناديق الاقتراع يوم 12 ديسمبر ليختار أقل المترشحين سوءا، لأنه سيكون وحده داخل المكان المخصص للاقتراع، وهو يعرف أن بإمكانه أن يكتفي بإلقاء ورقة بيضاء في الصندوق، ليخرج قائلا: عبرتُ عن رأيي رغم أنف الجميع، سلطة ومعارضة وفارغين شغل، ظنوا أن بإمكانهم أن يفرضوا عليّ رأيهم.
ولعل كثيرين سيخرجون لسانهم لبعض الأنظمة، في الخليج وغير الخليج، ممن كانوا ولا يزالون يحسون بالذعر من نجاح المسيرة الجزائرية.
ولعل أكثر من سيصدمون بالنتائج “أصدقاءنا” في الشمال، ومن له مثل هؤلاء الأصدقاء فليس في حاجة لأعداء.
آخر الكلام:  نداء منظمة المجاهدين لرئيس الدولة بالإفراج الصحي عن لخضر بو رقعة مبادرة إنسانية ذكية تخرج بالمنظمة عن إرادة من حاولوا استثمار قيمتها التاريخية إيديولوجيا، وهو نداء جدير بأن يدعمه الجميع، وحزب جبهة التحرير الوطني في المقدمة.
دكتور محيي الدين عميمور - مفكر ووزير اعلام جزائري سابق

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال