دخلت الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها فرنسا منذ أسبوعين منعطفا حاسما، بعد خطاب الرئيس مانويل ماكرون، والذي رفض فيه، ضمنيا، التجاوب مع مطالب المتظاهرين المحتجين على سياساته الليبرالية، ويرون أنها تستهدف القطاعات الاجتماعية الحيوية، ما يُنذر بعواقب غير محمودة، خصوصا في ضوء دخول التنظيمات اليمينية واليسارية الراديكالية على خط هذه الاحتجاجات، في محاولةٍ لاستثمار تداعياتها.
تعكس هذه الانتفاضة الشعبية الواسعة، إلى حد كبير، طبيعة التدافع الذي تعرفه المجتمعات المعاصرة أمام تغوّل الليبرالية الجديدة، وتزايد سطوتها في مواجهة الطبقات الوسطى والفقيرة. وتتجاوز دلالة الأحداث التي تشهدها فرنسا الاحتجاجَ على رسوم بعض الضرائب، نحو مساءلة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي تتجه معظم الحكومات الغربية إلى تبنّيه، نتيجة المتغيرات التي تصب في مصلحة الرأسمال الدولي العابر للحدود.
تعود بوادر هذه المتغيرات إلى نهاية الثمانينات، حين وضعت الحرب الباردة أوزارها، وتفكّكت الإمبراطورية السوفييتية، وحل الاقتصاد محل الإيديولوجيا، وانتصر اليمين على اليسار في مواجهة فكرية وإيديولوجية استمرت عقودا طويلة. حينها بدأ التفكير في كيفية التفكيك التدريجي لبنية الصراع الاجتماعي في الغرب، والذي أثرت ثورة أكتوبر سنة 1917 على معالمه الرئيسية، وإنْ بشكل غير مباشر.
كان نجاح هذه الثورة تحدّيا إيديولوجيا وسياسيا واجتماعيا بالنسبة للمجتمعات الغربية التي كانت تعرف حراكا متناميا داخل أوساط الحركة العمالية الناقمة على سوء أحوالها. أدركت النخب الغربية خطورة السياق الذي وضعتها فيه ثورة أكتوبر، غير أن الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم سنة 1929، ووصول النازية إلى السلطة في ألمانيا، واندلاع الحرب العالمية الثانية، ذلك كله حال دون تبلور سياق اقتصادي واجتماعي كفيل بمواجهة المد الشيوعي. ولكن بعد نهاية الحرب، وتفككِ محور الحلفاء بسبب الخلاف الإيديولوجي والمذهبي بين مكوناته، واتساع رقعة النفوذ السوفياتي، سيعرف النظام الرأسمالي تحولا نوعيا ودالاًّ، كان عنوانه الأبرز تحويل قطاع واسع من الطبقة العاملة في الغرب إلى طبقةٍ وسطى، بهدف الحد من ثوريتها وإدماجها في التركيبة الاجتماعية والسياسية والثقافية لهذا النظام، وهو ما تحقق بصيغ تباينت من بلد إلى آخر. وعلى امتداد عقود طويلة، راكمت الطبقة الوسطى الجديدة مكاسب اجتماعية كبيرة، لا سيما في مجالات الشغل والتعليم والصحة والسكن والرعاية الاجتماعية، الأمر الذي مكّن من إعادة تشكيل الصراع الاجتماعي والسياسي في الغرب، وفق عقد اجتماعي متوافق، ضمنيا، على خطوطه الأساسية.
وليس احتجاج الفرنسيين على الزيادة في بعض الضرائب إلا تعبيرا عن حركة احتجاجية واسعة، تتمدد بهدوء داخل معظم المجتمعات الأوروبية، إذ ترى أن مكاسبها الاجتماعية التي راكمتها عقودا باتت مهدّدة، في ضوء السياسات الليبرالية المتبعة، والتي ترتكز، في كثير من جوانبها، على توصيات المؤسسات المالية الدولية التي ترى أن الطبقة الوسطى صارت عبئا اقتصاديا، ليس فقط في الغرب، ولكن في معظم البلدان التي عرفت نظمها الاجتماعية حضور هذه الطبقة في دينامياتها السياسية والاجتماعية. هذا إضافة إلى عجز اليسار العالمي، بمختلف أطيافه الفكرية والسياسية، عن اجتراح اجتهاداتٍ تستوعب المتغيرات الحاصلة، وتُقدم لأحزاب اليسار المادة الخام من أجل صياغة بدائل كفيلة بمواجهة هذه السياسات.
وليس الحراك الفرنسي الذي تقوده حركة السترات الصفراء إلا نموذجا للحركات الاحتجاجية الجديدة التي سحبت البساط من مؤسسات الوساطة التقليدية، وأصبحت تقود الشارع وتستثمر موارد غير مسبوقة في تعبئته وتحشيد مكوّناته، الأمر الذي يمثل تحديا بالغا للحكومات ودوائر صنع القرار والتوازنات الاجتماعية القائمة.
وتفتح ثورة الاتصالات التي يشهدها العالم أمام هذا الاحتجاج الجديد آفاقـا أخرى، وتُحوله إلى خيار كوني، تتقاطع عنده تطلعات الطبقات الوسطى والفقيرة في مختلف أنحاء العالم. وعلى الرغم من تباين السياقات السياسية والثقافية التي تنتمي إليها هذه الطبقات، إلا أن تغوّل الليبرالية الجديدة، وتصاعد النزعات الاستبدادية والسلطوية، والخوف من المستقبل، ذلك كله يضعها أمام تحدٍّ مصيري، للدفاع عما تبقى لها من مكاسب.
محمد أحمد بنّيس - شاعر وكاتب مغربي
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال