أولا :المحركات النفسية للكسب والتموقع الاجتماعي
من القضايا التي قد تتداخل فيما بينها وتتقاطع ،أو لنقل: تتمازج لحد الذوبان والانصهار، نجد تلك التي تكون بين البواعث النفسية وظواهر المجتمع وما ينتج عنهما من تقلد للسلطة وتحصيل للمال والأعمال .
فالإنسان بحكم غريزتيه الماديتين الرئيسيتين :البقاء والنوع قد يبقى دائما حبيسا لهما بحكم الضرورة ومقتضيات وجوده القائم على الخوف والرجاء والتطلع نحو المزيد والآفاق.
فهو لا غنى له عن القوت والمعاش بشتى أنواعه ،وهذا قد لا يكفي لإشباع رغباته مما يدفعه للبحث عن تحقيق كمالات وجوده وضمان استمراريته ،فيسعى إلى التزاوج والتناسل لتكثير مساعديه ومسعديه .وهذا أيضا قد لا يكفي مما يضطره إلى حماية حريمه وصيانة عرينه وحقله بسياج من المنافسة بينه وبين غريمه ممن يشاكله نوعا وجنسا وقوة وفكرا ودهاء .وعند المنافسة قد تتم المغالبة وتتفاوت الحظوظ والدرجات امتلاكا واستيلاء،واحتكارا واحتقارا،وقيادة واستبدادا .
وهذا التضارب في المواقع والمواقف هو الذي سيؤدي إلى تولد خوف طبيعي بين بني البشر من الأمر الواقع.وهو له مستويات ومظاهر قد تمتزج في غالبها بالطمع، وخاصة لدى الدول المنعوتة بالمتحضرة ،والذي يمثل أهم محور سلوكي ومحرك نحو المبادرة والاجتهاد في تطوير أساليب العيش وتنمية الكسب واقتناص فرص الربح والعائدات.
ونظرية الطمع هاته قد ذهب إليها بعض المفكرين المسلمين فيما مضى كابن حزم الأندلسي في:"الأخلاق والسير في مداواة النفوس"باعتباره الباعث السلوكي لكل إنسان في تحقيق أهم مطلب نفسي لديه، وهو ما عبر عنه بطرد الهم ،أي مقاومة الخواف النفسي والاجتماعي ،والأهم فيه الخصاص المالي والاقتصادي .
فمن أهم الهموم النفسية التي قد تعتري غالبية الناس بحكم غريزة المنافسة لديهم هي تحقيق الرتبة والمكانة والتفوق ،وهي التي يعبر عنها صوفيا وسياسيا بالجاه الوسيلة الفعالة للتربع على عرش المراتب والامتيازات،وبه تتم إدارة عجلة الحياة والمجتمع وخاصة في المجال الاقتصادي والسياسي.
ثانيا:المكانة المعنوية ووظيفتها الاستقطابية والاستثمارية
يقول أبوحامد الغزالي في تقسيم للموضوع من الروعة بمكان:"اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا.ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها،ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها .وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير،أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس،فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس ،أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه.وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب لخلق بأنواع من المعاملات ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات،فكل من اعتقده القلب فيه وصفا من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك الكمال عنده وليس يشترط أن يكون الوصف كمالا في نفسه بل يكفي أن يكون كمالا عنده،وليس يشترط أن يكون الوصف كمالا في نفسه بل يكفي أن يكون كمالا عنده وفي اعتقاده"[1].
إن هذا النص ليطرح فعلا محور الإشكالية القائمة في عصرنا وأسباب التضارب السائد بين الشعوب والحكام والمطالبة بالمساواة وتحكيم الكفاءات والتوزيع العادل للثروات...
بحيث إن الرؤية البسيطة لا يمكن بها اقتلاع هذا المعنى المبني على قوة المكانة أو الجاه في تحصيل الكسب والتفاوت الطبقي الذي يحصل في المجتمعات تفاوتا نفسيا بالدرجة الأولى قبل أن يصيح ماديا وماليا عليه تنبني المؤسسات وتتنوع أوجه الاستثمارات.
حتى إن الكثير منا قد يتساءل مع نفسه وغيره ويستنكر أحوال الأغنياء من حوله قائلا: كيف تسنى لهؤلاء أن يجمعوا هذه الثروات الطائلة مع أنهم ليس لهم من العمل والسعي سوى تصدر المجالس العامة والرسمية بالزي والبدلة بينما غيرهم قد يكدون ويكدحون ولا يكادون مع ذلك يصلون؟.
ولحل الإشكال يجيب الغزالي بكل دقة وبرؤية علمية ونفسية راقية بأنه:"كما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم ،بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم ،لأن المالك يملك العبد قهرا والعبد متأبٍّ بطبعه ،ولو خلي ورأيه انسل عن الطاعة ،وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعا ،وينبغي أن يكون له الأحرار عبيدا وبالطبع والطوع مع الفرح بالعبودية والطاعة له.فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير،فإذا معنى الجاه : قيام المنزلة في قلوب الناس"[2].
وهو بهذا الطرح يكون قد سبق ابن خلدون بل مهد له في الموازنة بين صاحب المال وذي الجاه وأيهما أوفر حظا للاستفادة والاستثمار،فيرى أن:"صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاشات أكثر يسارا وثروة من فاقد الجاه،والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه.فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته ،من ضروري أو حاجي أو كمالي،فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه،وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه ،فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها فتتوفر عليه ،والأعمال لصاحب الجاه كثيرة،فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد مع الأيام يسارا وثروة"[3].
قد لا نحتاج إلى كثرة تعليق وتحليل وإنما النص واضح في المسألة، ولو أردنا لقسمناه إلى أقسام وتفريعات لا تكاد تنحصر، ولكن حسبنا أن أهم ما فيه هو هذا التطابق بين المفكرين عند الرصد والرؤية السليمة للواقع النفسي والاجتماعي مع تداخل السياسي بالاقتصادي ضرورة في هذا المجال .
ثالثا:المداهنة والنفاق السياسي طريق سهل للوصولي
وحينما يصبح الكسب والاستثمار قائما على خلفية نفسية فإنه بالمقابل لكي يحصل التفاوت في الرتبة والجاه والمكانة ينبغي أن توظف فيه نفس العملة ،أي أن الجاه الذي يقتضي العلو والذي هو نفسه سيكون مبنيا على خلق دنيء ومن مستوى الدرك الأسفل قيمة وجودة كما عنون له ابن خلدون بأن:"السعادة والكسب إنما يحصل لأهل الخضوع والتملق وإن هذا الخلق من أسباب السعادة "[4].
وهنا قد يختلف الرجلان ويتعارضان من حيث الغاية والهدف .إذ الغزالي يرى أن السعادة الحقيقية قد تكون في تجنب هذا المكسب النفسي والعمل على إخماد جذوته قدر المستطاع.وذلك لما له من عواقب وخيمة على المجال الروحي والتربوي السلوكي لدى الإنسان الطامح إلى نيل الكمال خلقي ونزع الرذائل من كبر وعجب وغرور وحسد وظلم.
بل إن صاحب الجاه بهذا الشكل والوسيلة قد يعرض نفسه للمقامرة بمصيره حينما يعظم لديه التعلق به عادة وديدنا،وتصبح المداهنة هي سبيله وهوايته ، حتى إنه قد يستدرج إلى منافسة السلطان في مقامه ورتبته فيكون بذلك يسعى إلى حتفه بظلفه.
أما ابن خلدون فهو ينظر من عدسة سياسية واقتصادية قد تختلف عن الغزالي مآلا وتطلعا إلى حد ما.بحيث إن السعادة المقصودة هنا هي الوصول إلى الهدف مهما كانت قيمته ،لأن كل واصل فهو سعيد بما وصل إليه.وهذا النوع هو ما يمكن الاصطلاح عليه بالوصوليين أو أهل "ادْهَن السِّيرْ يْسِير".وهي صفة قد تكون نافعة جدا في هذا الباب تحت مجهر "جرب فصح".وذلك بالنسبة لمن يريد الوصول إلى رأس هرم السلطة، فيكسب المال والجاه ويجلب الأنظار إليه طمعا وتعظيما، ثم يصير حينئذ مشكلا خطرا على الدولة وعلى الاقتصاد ووحدة المجتمع .
فمسألة حب الجاه والسلطة ،أو الرياسة كما يصطلح عليها الصوفية، هي تيار جارف ولا يقف عند حدود، وحينما يستحلي خمرها فقد تنسي المتملق المداهن مكانته الأولى والذل الذي كان عليه ومر به حتى وصل إلى ما وصل إليه من المكانة الظرفية.
فلا ينتبه من سكره حتى يصفع بقوة ،من خسارة ومصادرة أملاك وما إلى ذلك، فيسقط جاهه بجاه غيره ،وحينئذ يفقد كل كسبه الوهمي ،إذ كل وهم فهو باطل وما بني على باطل فهو باطل.
وعند تفرقع هذه الفقاعة الخاوية منذ البداية فقد تطرح مسألة المؤسسات والكفاءات في الدولة والمجتمع المدني كبديل عن هذا الاعتبار النفسي الوهمي ،الذي هو في الحقيقة ليس إلا خواف ورهاب اجتماعي وسياسي قد يوقع الإنسان في الهم ويحرك فيه جشع التملك وغريزة الطمع.
رابعا:دولة المؤسسات وتضييق الطريق على أصحاب الامتيازات
فعندما تكون أمة قائمة على العدل والمساواة في الحقوق والواجبات ولا تعير اعتبارا قويا لمكانة هذا أو ذاك ،نسبا أو دينا أو عشيرة وعصبية ،حينئذ قد تختفي هذه المعاشات غير الطبيعية ،والمداهنات غير الصحية، كما عبر عنها ابن خلدون أو تتقلص إلى حد قد لا يؤثر على الحياة العامة ودور المؤسسات المنتجة والمنظمة لمرافق المعاشات.وهذا ما عبر عنه الخليفة عمر بن الخطاب حينما اقتص لمواطن عادي ممن يزعم أنه ابن الأكرمين:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟".
كما أن المنصب الوحيد الذي ينبغي أن يبقى هو الضامن لتحقيق هذا الهدف في المجتمع هو منصب الملك أو الولاية الكبرى كما يعبر عنه الفقهاء،وهو المنصب الطبيعي للإنسان:"لأن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم"على حد تعبير ابن خلدون .وذلك باعتباره محور الدنيا أو ركنها كما عبر عنه الغزالي سابقا.وله بهذا الامتلاك صفة معنوية لا عينية.أي أنه هو الدولة نفسها بدستورها وقوانينها.
فإن كان ولا بد من توظيف الجاه لمِلك القلوب من أجل النظام العام فليكن في يد مؤسسة واحدة ساهرة على مصلحة الجميع، من غير تمييز ولا إسراف في الامتيازات والتبذير المالي ،ولو كانت هذه الطبقة هي من تحتكره،إذ المفروض صرفه في مصالح البلاد والعباد والعوْد به عليهم توظيفا واستثمارا وتنمية.
وفي هذا الصدد يقول النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس ليس لي من هذا الفيء و لا هذه ( الوبرة ) إلا الخمس ، و الخمس مردود عليكم ، فردوا الخياط و المخيط ، فإن الغلول يكون على أهله يوم القيامة عارا و نارا و شنارا" رواه أحمد " وَيَقُولُ : " لِيَرُدَّ قَوِيُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ".
فمكانة النبي صلى الله عليه وسلم ،كرسول وقائد وإمام ،اقتضت هذا الكسب، ولكنه كسب من أجل ترشيد التوظيف والاستثمار ،لأنه في النهاية يعود بنفعه على الأمة ،وليس عيبا أن تتمركز الثروة الكبرى في يد الملك أو وجهاء البلد طالما أن هؤلاء سيعملون على استثمارها وتوظيفها من أجل تنمية اقتصاد البلاد والمساعدة على محاربة البطالة والفقر والجهل والتخلف.ولكن العيب كل العيب أن يتعاون المال والجاه من أجل الاستعباد والتفقير والتخدير وإنتاج متملقين ووصوليين لا حصر لهم ،همهم الوحيد هو :"ادْهَن السّيرْ يْسيرْ".فهل من مستنير؟
محمد بنيعيش
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال