Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

الجزائر | تعليمنا وجامعاتنا بلا أهداف

منذ سنتين عاد الجدل حول التربية والتعليم إلى الواجهة ولم يكن المحرك والدافع قضايا علمية تمس صلب العملية التعليمية بل دوافع إيديولوجية محضة، وهذا بسبب الخيارات التي أقدمت عليها الوزيرة ومحيطها وأدخلت المجتمع في صراعات هوياتية وفكرية لا يبدو أنها ستنتهي، بينما الحقيقة التي لا يبدو أن أحدا يريد التطرق إليها بوضوح هي أن مؤسساتنا التربوية والتعليمية والبحثية عديمة الجدوى وتفتقد للأهداف ولا علاقة لمخرجات الجامعة الجزائرية بالاقتصاد أو بالحياة اليومية للجزائريين ولا باستمرار معيشتهم، بل يمكن في الواقع الاستغناء عن كل الجامعات الجزائرية واستبدالها ببعض المعاهد التي تكون في أساسيات الإدارة اليومية (معالجة النصوص والمحاسبة وأساسيات التعامل مع الإعلام الآلي، والطب والشبه الطبي ومبادئ بسيطة في التسيير الإداري)، أمّا باقي حاجيات الجزائريين فعائدات النفط والغاز كفيلة بها بشكل أو بآخر ولا تحتاج مخرجات الجامعات والمؤسسات البحثية، والشاهد هو الوضع الذي نعيشه منذ انخفاض أسعار البترول، ربما نخبة المجتمع الحقيقية هي طبقة الفلاحين الذين يوفرون جزءا كبيرا من قوت الجزائريين وسيشعر الشعب بغيابهم.
لا نجد أدل على ضياع بوصلة التعليم العالي في الجزائر وهدر أفضل الطاقات البشرية من تلك السنوات التي يقضيها طلبة الصيدلة في الجامعة ليتحولوا في نهاية المطاف إلى "بقالين" للأدوية يقومون بمهمة يستطيع تلميذ مستوى بكالوريا أن يقوم بها، بل إن أغلب الصيدليات في الجزائر اليوم لا تجد فيها صيدليا، بينما هؤلاء الطلبة الذين درسوا الصيدلة هم من أفضل طلبة الجزائر وكان الأصل أن يكونوا هم نخبة المجتمع وقادة صناعته وبحثه العلمي!
ففي ظل غياب أي روابط بين المؤسسات التربوية والجامعية والبحثية من ناحية والمؤسسات الصناعية والفلاحية والاقتصاد بصفة عامة من ناحية أخرى وغياب التقاليد والمرجعيات العلمية والأكاديمية أصبحت مصطلحات التربية والتعليم والبحث العلمي مفاهيم ضبابية غير قابلة للقياس، لا من ناحية الجودة ولا من ناحية الكمية الحقيقة، ولقد تم ابتذال هذه المصطلحات وفي خضم هذه الضبابية ضاعت بوصلة الأمة وبوصلة مؤسساتها البحثية والجامعية.
في كل مرة نسمع عن إنشاء جامعات أو مراكز بحوث (بل مؤخرا الأكاديمية الجزائرية للعلوم)، إلا أن دار لقمان بقيت على حالها، بل تراجعنا، وبدل أن ننشئ مؤسسات تكون قاطرة لصناعة نواة للبحث العلمي والتكنولوجي الحقيقي أنشأنا مزيدا من الكيانات الإسمنتية البيروقراطية أقرب إلى دور الرعاية الاجتماعية ليس لها أي أهداف واضحة المعالم، سواء كانت القصيرة أو المتوسطة أو البعيدة المدى، تنفق عليها مئات الملايير سنويا والناتج الصافي تعرفه الوزارة المعنية ويشعر بحقيقته المجتمع. 
عندما نتحدث عن الأهداف هنا لا نقصد أبدا ذلك الكلام الإنشائي الذي كثيرا ما يملأ ديباجات  اللوائح والقوانين المنشئة لهذه المؤسسات، فذلك يعتبر في واقع الأمر من لغة الخشب التي يجب تجاوزها. إن ما نقصده هو أهدافا محددة وملموسة ماديا ومعنويا، بعبارة أخرى إنجازات قابلة للقياس وتدل فعلا عن وجود ثمرة حقيقية لهذه المؤسسات البحثية بتحققها يمكن القول إننا خطونا الخطوة الأولى نحو ولوج عالم الحضارة والنهضة، وتعتبر كلبنة في أساسات قاعدة وتقاليد علمية وتكنولوجية حقيقية.
وحتى نكون عمليين سوف نعطي أمثلة ونماذج عن هذه الأهداف التي يمكن أن تكون مقياسا حقيقيا لمدى نجاعة أي مشروع علمي أو تكنولوجي.
دعنا نشير أولا إلى نموذج عملي ناجح من كل النواحي، أنشأت الهند قبيل استقلالها معهد "تاتا" Tata للبحث الأساسي (TIFR) وبمجرد استقلالها أصبح نقطة ارتكاز المشاريع الكبرى، كان من ضمن الأهداف الأولى التي وضعت على الطاولة هو صناعة أول كومبيوتر رقمي هندي. تحقق هذا الهدف بالفعل سنة 1957، نحن هنا نتحدث عن سنة 1957 في وقت لم تكن الثورة الرقمية، ولا حديث عن الحواسيب الشخصية، كان الحاسوب بدائيا ولا ينافس الأجهزة التي أصبحت تتداول في أمريكا أو بريطانيا، ولكن كان بمقياس ذلك الوقت خطوة عظيمة ساهمت في تحكم الهند في أساسيات هذا العلم. 
لقد كان لمعهد تاتا دور رئيس في تأسيس أول فريق بحث في البيولوجيا الجزيئية سنة 1957 الذي انتهى بتأسيس المعهد الوطني للعلوم البيولوجية، بالإضافة إلى القنبلة النووية وكثير من الأهداف والإنجازات التكنولوجية، أخرج هذا المعهد علماء كانت لهم إنجازات عظيمة وتاريخية في مجال الرياضيات، وخاصة في مجال الهندسة التفاضلية والجبرية، كما أسس هذا المعهد لصناعة البرمجيات الهندية أو ما يعرف بـ IT industry والتي تدر اليوم على الهند ما يفوق 70 مليار دولار سنويا، رقم يفوق مداخيل الجزائر من النفط سنويا، على الرغم من أنها صناعة لا تحتاج للبنية تحتية، كما هو حال صناعة النفط، فعملية التنقيب هنا تتم على العقول وليس على النفط. 
الآن بعد أن ذكرنا مثالا عمليا من التجربة الهندية سنحاول أن نقدم نماذج عن أهداف يمكن أن تكون مقياسا لمدى نجاعة أي مشروع مستقبلي، بل ضرورة للانطلاق في عالم البحث العلمي والتحكم في تكنولوجيا العصر ومن دونها ستبقى كل المشاريع مجرد حبر على ورق وكلاما إنشائيا.
أولا- آلة حاسبة جزائرية: قد يبدو العنوان أو المشروع بسيطا للكثيرين أو غريبا ولكن الدعوة هنا إلى أن نضع كهدف أول لأي مشروع تكنولوجي هو صناعة آلة حاسبة جزائرية 100 %. عندما نقول آلة حاسبة في الواقع فإننا عمليا نتحدث عن مشروع صناعة حاسوب جزائري، فإذا استطعنا أن نصنع آلة حاسبة بكل مكوناتها وتصميمها ومعالجها وشاشتها الرقمية بأياد جزائرية فإن مسألة صناعة جهاز حاسوب ستكون مجرد مسألة وقت. 
إن صناعة آلة حاسبة، والتي يبلغ سعرها دولارين أو أقل، سوف يحتاج إلى باحثين في علوم الالكترونيات وعلم المواد والفيزياء وحتى الرياضيات والبرمجة، مما سيؤسس لفكر تعاوني علمي جديد تفتقده مؤسساتها العلمية والبحثية، كما أن فهم هذه التكنولوجيا الرقمية في هذا النموذج الذي يبدو بسيطا سيفتح أبواب فهم أعقد العلوم التطبيقية والتكنولوجية. فنحن هنا لا نتكلم عن تقليد بل عن فهم الأسس العلمية والتكنولوجية، هذا المشروع قد يكون اللبنة الأولى في التعاون بين القطاع الخاص الصناعي والمؤسسات البحثية، ومن ناحية أخرى يمكن على أساس تحقيق هذا الإنجاز الذي قد يبدو بسيطا (ولكننا عاجزين عنه لحد الآن) محاسبة وقياس نجاعة المؤسسات العلمية والبحثية التي تم بعثها ويحدد مواطن الخلل في منظومتنا، فإذا عجزنا عن صناعة آلة حاسبة بسيطة فإننا عن غيرها طبعا أعجز.
ثانيا- محرك جزائري: هذا المشروع شبيه بمشروع الآلة الحاسبة ولكنه ميكانيكي، عندما نضع مشروع صناعة محرك جزائري بدائي متكامل بأدوات وأياد جزائرية، فهذا يعني أننا أيضا وضعنا أرجلنا على أول سلم عالم المحركات بكافة أنواعها، قد يكون هذا المحرك هو محرك سيارة من النوع القديم أو محرك دراجة، إلخ، إنجاز هذا العمل لا يتطلب فقط باحثين وأساتذة جامعيين بل مهندسين وتقنيين وعمال عاديين، فهو في الحقيقة سيكون ورشة صناعية متعددة يمكن إشراك فيها القطاع الخاصة وكل المؤسسات الراغبة في الشراكة عبر قوانين وآليات شبيهة بتلك التي قامت عليها النهضة الكورية الجنوبية. 
 تجدر الإشارة إلى أن عملية تجميع المحركات أو السيارات أو الأجهزة الإلكترونية في الجزائر وغيرها من الدول لا تعتبر صناعة ولا نصف صناعة أو تحكم في التكنولوجيا.
طبعا لا نقصد هنا أن تسخّر كل إمكانيات وأهداف التعليم نحو هذين الهدفين، ولكن ما نقصده أن يتم وضع أهداف صناعية وتكنولوجية محددة تسخّر لها الإمكانيات اللازمة البشرية والمادية وتكون نواة لنهضة صناعية وتكنولوجية.
هذا النوع من الأهداف وربط التعليم بمخرجات تكنولوجية اقتصادية سيكون له انعكاس مباشر على مستوى التربية والتعليم والبحث العلمي، وسيؤسس لقواعد قياس واحتكام جديدة ومن الصعب أن يتم التلاعب بها وتمييعها. 
إن الحقيقة الأهم التي علينا جميعا كجزائريين (وكأمة إسلامية) الاعتراف بها هي أننا نعيش خارج نطاق العلم والحضارة عمليا، نحن مجرد مستهلكين لمنتجات الحضارة الغربية المادية والمعنوية، نحن أمة لا تستطيع أن تعيد إجراء تجارب علمية تم إجراؤها منذ أزيد من قرن أو قرنين من الزمن، فلو توقف الغرب والدول الآسيوية الصناعية عن مدنا بالأجهزة الالكترونية والميكانيكية سنعود إلى القرن السابع عشر وتتحول كل سياراتنا وأجهزتنا الالكترونية والميكانيكية إلى ركام من الخردة.
ضو جمال - أستاذ الفيزياء بجامعة الوادي/الجزائر
echoroukonline.com

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال