حين تقابل حامل المسدس مع حامل الفكر كانت للمسدس كلمة الفصل ؛ لكنها لثوان فقط، ويسمو صاحب الفكر عاليا فوق الأعزل من الفكر، ينداح في الفضاء السياسي والثقافي للمنطقة طوفانا يغرق طائفة مسح لديهم الفكر ومسخت الروح وزيف الوعي فغدوا لا يرعون الحياة البشرية المقدسة وتعوزهم المشاعر والقيم الإنسانية. إنهم جهلة يحتضنون تخلف الماضي حتى لو حملوا الشهادات الجامعية . فالعلم ، حين الجهل بقانونه الأساس، يستظهر قواعد وقوانين يقينية ثابتة، وليست سيرورة من النفي الذاتي والتطور المستمر، يغرق في مستنقع التزمت والتعصب .
أربعة مواقف للتدين الإسلامي تضاربت حيال جريمة اغتيال الكاتب حامل رسالة التنوير:
القاتل ومجموعة الدواعش يحملون الدين بأيديهم هم القضاة والمدعون والجلادون. فضحوا العطب الكامن في العملية التعليمية ، إذ تنكر القاتل خريج الجامعة لعقلانية العلم وشرط الحوار؛
الحكم والاحزاب الإسلامية في الأردن وكذلك الأزهر استنكروا الاغتيال واعتبروه جريمة يعاقب عليها القانون بأقسى العقوبات؛
الأزهر والحكم الأردني والإخوان المسلمون اعتبروا أنفسهم أوصياء على الضمير ووسطاء بين الله والفرد، ادانوا ضمنا وصراحة نشر الرسم، استنادا إلى فقه العصر الوسيط المصاب بأعطاب الاستبداد والتزمت،وذلك دونما اعتبار لمواقف الكاتب السابقة من الدين الإسلامي ومن نبيه وقيمه السامية.
والموقف رابع عبر عنه جمهور واسع نددوا بالجريمة دون تحفظ ، حاكموها بموقف عقلاني جريمة سياسية بامتياز وتجليا لفاشية منفلتة ضد رسالة التنوير والانحياز لشعوب سوريا وفلسطين ولبنان وليبيا واليمن ضد تآمر التحالف الامبريالي – الصهيوني – الرجعي العربي.
كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب قد حكم العقل في آية قرآنية تجيز منح الصدقات للمؤلفة في قلوبهم ؛ تغيرت الظروف وانتشر الدين ، فلم تعد حاجة لمجاملة المؤلفة قلبيهم؛
وعلى نفس النهج العقلاني سار عملاق الفكر الإسلامي، نصر حامد ابو زيد. رفض وصاية أي جهة او فرد على ضمير الإنسان. كان بمقدوره الخلاص من محنته، وهو يحاكم بتهمة الخروج على الدين، بالنطق بالشهادتين امام المحكمة ثم التوجه إلى الجامعة يواصل عمله الأكاديمي . رفض الإقرار لسلطة أرضية على الضمير والعقل. واحتراما لسلطة العقل داخل الحرم الجامعي رفض بمبدئية حازمة تدخل التفكير الديني في تقييم اطروحته التي تقدم بها لنيل الأستاذية؛ فلم يقبل من رئيس الجامعة تعهده بترقيته إلى مرتبة الأستاذية في فصل قادم وترك اعتراض اللجنة الأكاديمية المحكّمة في أمر الترقية يمر بصورة مؤقتة. ادرك نصر حامد ابو زيد ان القضاء والأكاديميا في مصر نقل عن طريق البعثات إلى الخليج، مع اموال النفط ، أعطاب الفكر الوهابي. لكن رجل الفكر نطق بالشهادتين لدى الالتقاء في هولندا باساتذة الجامعة كي يفهمهم انه وافد من ثقافة لها شانها وليس لاجئا يستجير الحماية. وعلى هذا حظي بالاحترام والتقدير في بيئة تحترم العقل والضمير .
أثبتت تداعيات اغتيال ناهض حتر ان الكلمة الحرة تتماهي مع إنسانية البشر، وهي الأبقى والأكثر حظوة؛ وهي أيضا مرعبة لخصومها. نزلت الجريمة امام قصر العدل في الأردن تذكرة ووعيدا لكل من يرفع لواء التحديث والتنوير ويرفض الشعوذة السياسية او الاقتصادية أو الثقافية ويناهض الإرهاب وينتصر لضحاياه. كان بإمكان القاتل ان يكمن للضحية قرب بيته أو يترصده في الشارع؛ جاء اختيار شخص الضحية ومكان الجريمة وموعدها عن سبق تخطيط جماعي ؛نزل يتحدى شركاء الكاتب التنويري ! وكل تحقيق يغفل هذه الحقيقة إنما ينزع الجريمة من سياقها الاجتماعي ويقزمها مجرد نزوة فرد او محض حماقة.
إن اغتيال كاتب تنويري في المنطقة الموبوءة بتدخلات الهيمنة ، المحتضنة للفكر التكفيري، مقترن بالتحالف العربي مع إسرائيل ، والذي تباهى به نتنياهو على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وهو صدى لتقويض الهدنة في سوريا على يد البنتاغون الأميركية وعملائها منظمات الإرهاب في سوريا. اغتيال الكاتب تهديد موجه لكل من يتصدى للجور النازل بشعوب سوريا وفلسطين وكل بلدان المنطقة؛ إنه محاولة لفرض الصمت في المنطقة حيال مؤامرة أخذها إلى حروب مستدامة قد تُستغَل للقفز إلى حرب نووية مدمرة . فمكافأة أوباما لإسرائيل العابثة بمزيد من الأسلحة عالية التقنية على مدى عشر سنوات لاحقة، واصطفاف المحافظين الجدد والليبراليين الجدد ودعاة العولمة والتجمع الصناعي – العسكري الأمني في اميركا خلف المرشحة هيلاري كلينتون، مفجرة التدخل في سوريا، والمرحبة بغزو العراق، والتي تكثف حملاتها التحريضية ضد روسيا، لهي مؤشرات تزعق بالكوارث المدخرة لفلسطين والمنطقة المحيطة والعالم.
بتعبير المفكر الأميركي مارك بروزينسكي فلكل هذا بداية زامنت بداية القرن، "في 11أيلول 2001، حيث أعلن عن الخطة السرية للإطاحة بأنظمة سبعة بلدان شرق أوسطية تبدأ بالعراق وتنتهي بإيران. وبينما يستعد اوباما لمغادرة البيت الأبيض فقد أعد المسرح لحرب ممتدة في المنطقة لا يبدو في الأفق لها نهابة ، تتسع لتشمل صداما مع روسيا حتى الصين، صداما يتخذ شكل حروب عسكرية واقتصادية وحروب تقاني وحرب فضاء".
لن تنجز الخطة إلا على جثث الديمقراطية والتحرر الوطني والتنوير في المنطقة ؛ من مستلزماتها كتم كل صوت معارض وترهيب القوى المناهضة لتحالف الامبريالية – الصهيونية – الرجعية العربية، وإشاعة الظلامية في ربوع المنطقة . ومن يجسر على القتل لا يرعوي عن الكذب ؛ لا يشترط في المؤامرة ان يعي المنفذ أبعادها ومراميها ؛ فهو اداة توجه عن كثب او عن بعد ومهمتها ان تطلق الزناد. يشترط في الأداة انغلاق الرؤية خلف حاجز التعصب الزميت، يسكنها الحقد المرَضي على الفكر التنويري والحداثة .
التنطع للحداثة ينحط لمستوى الانكفاء عن صنع التاريخ، ولحضيض الخرافة والتجهيل بيئة يخترقها التآمر. الحداثة المرادفة للتنوير قمر يفتقد في حلكة الظلام، حيث يعمد التجهيل تفسير اوضاع التعاسة البشرية بعوامل تخرج عن سيطرة البشر، ويسلب الإنسان حرية القرار بجبرية ظلت فلسفة الحكم الاستبدادي على تتالي القرون، وذلك لإسناد إرادة سياسية تسعى إلى فرض الخنوع للحرمان، والاستسلام لما تمليه الإرادة المتآمرة حقا، رغم سخرية المتآمرين من " نظرية المؤامرة". فكل دولة ذات أطماع غير مشروعة تنجز مراميها من خلال التآمر؛ والدول المستبدة وذات الأطماع في الهيمنة العولمية تتآمر ضد التنوير والمنورين وتنشر التعصب والتزمت.
إن التنوير الحديث، وفي منطقة الشرق الأوسط، ليس مجرد نشر للمعرفة الحقة والصحيحة فى مواجهة الجهل والمعرفة الزائفة، وانما هو مشروع يهدف إلى إعادة صياغة علاقة الإنسان بنفسه أولاً ليكون صاحب إرادة وسيد مصيره، ثم علاقته بالآخرين على قاعدة الندية والتكافؤ، وأخيراً علاقته بالسلطة الأبوية، التي تحدرت من العصر الوسيط مع حمولاتها الاستبدادية في الفكر ونظم الحكم. التنوير سعى لقطع للعلاقة الصرية مع التخلف ، يكافح النظرة الماضوية المتضمنة في النظم الأبوية التي تنظر لكل تجديد او تحديث تنكرا للقيم وخروجا على الجماعة. والتنوير يكشف التزييف والتأويل المتعمدين للدين حين يسخر فقهه لدعم نظم الاستبداد. وإقدام القاتل على القتل كان بمسوغ ديني زائف.
منذ اللحظة الأولى جرى انتقاد قرارالحكومة بإيداعه السجن وإسناد تهمة التجديف إليه . جرى التحذير من العواقب . يقينا ان المخططين لجريمة اغتيال حتر قدروا للرصاصات أن تفجر اكثر من ازمة داخل الأردن.
في قضية ناهض حتر جرى الاحتكام إلى التدين وليس الدين. والتدين هو ما تلقاه الإنسان الفرد من دعاة الدين، ناشري الأمية الدينية، حيث تقبع أزمة المسلم فى هذا الزمان، تائهاً حيرانا. الفرد المسلم لا يقارب الدين او يستوعبه إلا مزيفا على أيدي وعاظ ودعاة يجهلون نواميس الفكر والفكر الديني بوجه خاص. هم اصحاب حرف او متعلمون ذوو قدرات ذهنية متدنية تفضل التكفير على الحوار الفكري والتفكير. ولذلك كانت هناك مساحة واسعة بين الدين والتدين فى جميع الملل. ليست النظرات التكفيرية هي المعبر الحقيقي عن الإسلام، وليس التدين السائد ينسجم مع جوهر الإسلام.
فمن المعلوم انه مباشرة بعد وفاة الرسول بزغت اجتهادات لتفسير آيات متشابهات ( تثير الاختلاف والتشابه لدى تفسيرها) استنفرت ملكات العقل كي تثبت بمنطق العقل وبراهينه؛ فنشأ ما سمى علم الكلام، أو علم التوحيد لتقديم الإيمان الإسلامى للداخلين فيه من غير العرب مدعما بالحجة العقلية والبرهان المنطقى من فقه اللغة العربية. تواصل التوجه العقلاني لتفسير القرآن أكثر من مائتي عام ، ثم انتكست العقلانية وطردت من الفكر الديني على أيدي الحكام المستبدين وفقهائهم. فرض النظام الأبوي المستبد وصايته الصارمة على الفكر الديني، نزع منه جوهره العقلاني، ولم يترك سوى حكاية الفرقة الناجية كل من يخالفها فرق هالكة في الدنيا ولآخرة، والكل في منظومة عسكرية دوما متحركة دوما طاردة أو مطرودة. تسخير الدين لدعم السياسةأفسد الطرفين.
إن الاعتبار من مأساة ناهض حتر ورد التحدي بتحد غلاب يقتضي من الكتاب والمفكرين انصار الحداثة ومناهضي التآمر الامبريالي – الصهيوني- الرجعي على شعوب المنطقة تمتين جبهة الثقافة الوطنية الديمقراطية وتوسيعها بالتفاعل مع النهج الديمقراطي للسياسات الوطنية التحررية والتقدمية. امام جبهة التقدم العربي مهام التخلص من آفات ثلاث تفاعلت في ضفيرة واحدة، وتشكل التحدي المتعين في الواقع الاجتماعي للمنطقة العربية، وذلك من اجل تسليك دروب التحرر والديمقراطية والتنمية الاجتماعية. تتمثل الآفات الثلاث في نظم حكم ابوية مستبدة وفكر ديني أشاع أمية دينية وجبرية تشل إرادة البشر، وتعليم مدرسي وجامعي يعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية السائدة ولا يرقى بالوعي الاجتماعي من خلال تنمية التفكير النقدي والإبداع وروح المبادرة لدى الأجيال.
التعازي الحارة لزوجة ناهض حتر ولأنجاله وأشقائه وشقيقاته. و لكل أصدقاء ناهض ومحبيه خالص العزاء ، برجاء أن يستلهموا العبرة اللازمة ويتفهموا الدرس جيدا.
سعيد مضيه - الحوار المتمدن
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال